صبحى شبانة
خليك في البيت
مرت على الإنسانية أوبئة، وضربت البشرية كوارث، فتكت بالملايين، لكنها لم توقف حركة الحياة وديمومتها، الإنسان هو الكائن الوحيد في هذا الكون القادر على الخروج من البلايا أكثر قوة، الحياة أضافت للجنس البشري ولم تخصم منه، فالكوارث لا تدع للإنسان فرصة إلا للبحث عن طوق نجاة، المثل العربي يقول: "الضربة التي لا تقتلك تقويك، والعين التي لا تبكي، لا تبصر". فيروس كورونا ليس مجرد سوى حلقة في سلسلة متصلة من ابتلاءات الحياة التي تزيد الإنسان قوة وصلابة ومناعة، محن ومصائب وأوبئة.
كانت أشد فتكا، وأصعب ألما، وأكثر كلفة، لكنها صارت خبرا، في الأوبئة والمجاعات يصبح الخبز أولا، ويزهد الناس في أي شيء حتى الغالي والنفيس، لا تختلف أدوات ودفاعات مكافحة الناس للأوبئة ومواجهة المخاطر، ففي كل الأزمان الإنسان يبقى هو الإنسان، يبحث عن ذاته، ينقب في حياته، تسكنه روح التحدي، يفتش في عناصر القوة الكامنة لديه التي اختزنها الله فيه، تتوحد معه الطبيعة لتمده من بواطنها بالترياق، وتغذيه بالأمل.
فما أجمل الحياة التي تمد الإنسانية بعطاءاتها، وتغنيه بمكنوناتها، وتغذيه بخبراتها!
المؤرخ المصري تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، الذي عاش بين 1365 و1441 ميلادي يسجل في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، أن أمد البلاء في عصره طال، وحلّت فيه بالناس أنواع من العذاب، حتى ظن الكثيرون أن المحنة غير مسبوقة، ولن تزول.
ورسم المقريزي صورة لما حل بأهل مصر أثناء الشدة المستنصرية، التي حلت بالبلاد في عهد الخليفة الفاطمي الثامن المستنصر بالله بن علي الظّاهر، واستمرت سبع سنين منذ سنة 1065 ميلادي بقوله: تزايد الغلاء، وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأراضي من الزراعة، وصار الخبز طُرفة، وعم الخوف، وخيفت السبل برا وبحرا، واجتمع على الشعب الخوف والجوع وأُكلَ الناس الكلاب والقطط حتى قلّت الكلاب، فبيع الكلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتحرّز الناس، فكانت تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سَلَب وحبال فيها كلاليب، فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه وشرحوا لحمه وأكلوه.
وفي الشدة الأيوبية يسجل المقريزي، أن الغلاء وقع سنة 1200 ميلادية أثناء حكم العادل أبي بكر بن أيوب، شقيق صلاح الدين الأيوبي، وكان السبب هو انخفاض منسوب مياه النيل، الذي أجبر الناس على ترك قراهم والنزوح إلى القاهرة، وصحب الجوع وباء وفناء حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ابنه، والمرأة تأكل ولدها، ووجدت لحوم الأطفال بالأسواق والطرقات مع الرجال والنساء مختفية، ثم تزايد الأمر حتى صار غذاء الكثير من الناس لحوم بني آدم حتى ألفوه، وفني أهل القرى، حتى إن القرية التي كان فيها خمسمائة إنسان لم يتبق بها سوى اثنين أو ثلاثة، وكان الرجل بالريف يموت وبيده المحراث، فيخرج آخر للحرث فيصيبه ما أصاب الأول.
ما أكثر اجتياحات الأوبئة، التي تعاقبت في التاريخ على مسيرة الإنسان قبل كورونا مثل الطاعون، والجدري، والسل، والحمى الصفراء، والكوليرا، والإنفلونزا الإسبانية، وإنفلونزا الخنازير، والإيدز، وإلايبولا، وغيرها الكثير، غير أنه استطاع بتحديه الانتصار عليها باختراع الأمصال والأدوية، وتحفل سجلات التاريخ بالعديد من الكوارث والأوبئة والبلايا والمصائب، حتى يظن المرء أننا أمام سيل ينهمر من عواصف وخطوب الحياة التي تحقنه بالمناعة، وتدفعه إلى التطور، وتعيده من الشطط إلى الصواب، فتسمو فيه الروح على الجسد، ويطفو الإيمان ويتجذر، ويتوحد الإنسان مع ذاته، ويدرك ما يتوجب عليه فعله، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يتعلم الإنسان من ضربات القدر؟، وهل بمقدوره أن يحمي نفسه من موجات الأوبئة؟، الجواب بالتأكيد يكمن في صيرورة الحياة، وتطور الجنس البشري، وتعدد أدواته، وكثرة حيله، وتخطيه وتغلبه على مختلف المحن، وتحويله لكل الانكسارات إلى انتصارات، الحياة تستحق منا تفانيا وإخلاصًا والتزامًا أكثر.