

محمد بغدادى
الخط العربي من فرانكفورت إلى اليونسكو
حلمٌ يتحقق رحلة الخط العربي من فرانكفورت إلى اليونسكو
بقيادة سعودية، الخط العربي في طريقه لـ"يونسكو" بالتعاون مع منظمة "أليكسو"
فنون الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الإنساني
16 دولة عربية تشارك تقديم الملف لـ"يونسكو" في 31 مارس 2020
الرياض عاصمة لفن الخط العربي لعام 2020
في صيف عام 2001 نجح الدكتور غسان سلامة، وزير الثقافة اللبناني الأسبق، في إقناع إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب بأن تكون ثقافة العالم العربي ضيف الشرف في دورته السادسة والخمسين لعام 2004، دفاعًا عن عالمنا العربي وثقافتنا وحضارتنا الإنسانية.
وعُرضت الفكرة على المجالس الوزارية العربية المعنية بجامعة الدول العربية، التي وافقت على هذا المشروع الثقافي الضخم الذي نستطيع من خلاله إبراز الوجه الحضاري للعالم العربي وقيمه السمحة، وتفاعله مع الثقافات والحضارات الأخرى.
وفي هذا السياق أعدت جامعة الدول العربية برنامجًا موسعًا لهذه المشاركة، بالتعاون والتنسيق مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، باعتبارها تمثل الجناح الثقافي للعمل العربي المشترك بهدف إبراز الوجه الثقافي للعالم العربي، وتأكيد أن الوطن العربي يتطلع إلى المزيد من التطور والتحديث ومواكبة التحولات الكبرى.
وتشكلت لجنة عليا من وزراء الثقافة العرب لمتابعة هذا العمل الثقافي العالمي، وفي اجتماعهم غير العادي يوم 10/12/2003، ووافقوا على برنامج المشاركة العربية في المعرض، وعقد ممثلو الدول العربية اجتماعًا في تونس في إبريل عام 2004 شاركت في أعماله 13 دولة، كما عقدت اللجنة العلمية اجتماعًا في العاصمة اللبنانية بيروت يومي 6 و7/5/2004، شاركت في أعمالها مجموعة منتقاة من العلماء والمفكرين العرب واختارت اللجنة 185 مشاركًا، بين عالم ومفكر وأديب وفنان للمشاركة في فعاليات برنامج المشاركة العربية في معرض فرانكفورت، واختارت مجموعة منتقاة من الأعمال الفنية والمسرحية والأفلام والفنون التشكيلية والحرف التقليدية بخلاف الفعاليات الأخرى المتنوعة.
وبذل الدكتور المنجي بوسنينة، وزير الثقافة التونسي الأسبق، جهودا رائعة لإنجاح هذه المشاركة، وكان آنذاك المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، والمنسق العام لبرنامج المشاركة في هذه التظاهرة الثقافية العربية الدولية، ومعه السيد محمد غنيم، المدير التنفيذي لبرنامج المشاركة العربية، والمهندس إبراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب.
وفي الرابع والعشرين من شهر مارس 2004 وافق مجلس وزراء الخارجية العرب على البدء في إطلاق الترتيبات النهائية لبرنامج المشاركة، وكنت قريبًا من هذه الترتيبات بوصفي- آنذاك- عضوًا بمجلس إدارة اتحاد الناشرين المصريين، وعضو اتحاد الناشرين العرب.
وبعد أن تابعت أخبار المشاركة، بهرني عدد المعارض الفنية وتنوع الفعاليات، فبحثت عن الخط العربي فلم أجده! وحاولت أن أجد سبيلًا لوضع الخط العربي ضمن الفعاليات فلم أوفق.
وكان هناك مؤتمر صحفي بنقابة الصحفيين حول هذا الحدث الثقافي، فأطلقت منه مبادرة تتضمن رسالة موجهة لأمين عام جامعة الدول العربية السيد عمرو موسى- آنذاك- أطالبه بضرورة أن تكون للخط العربي مساحة من الحضور في هذه التظاهرة الثقافية العربية.
وطرحت عليه سؤالا في بياني الصحفي: كيف يذهب العرب والسيد عمرو موسى إلى الحضارة الغربية بلا هويتهم الفنية؟!
وصلت أصداء البيان الصحفي إلى الأمين العام، فأرسل في طلبي، فذهبت إليه بصحبة المدير التنفيذي، الصديق محمد غنيم- رحمه الله- وكانت مقابلته ودودة للغاية، وسألني عن الهوية الغائبة؟ فقلت له: كيف وأنت في طريقك إلى فرانكفورت لا يكون هناك ضمن معارض الفنون المتعددة معرض لفنون الخط العربي، وقد يكون معك العديد من اللوحات التي تعبر عن حضارتنا وثقافتنا العربية، لكنك أيضًا ستعرض العديد من لوحات الفن التشكيلي التي يصلح أن يوقع عليها أي فنان أوروبي، إلا لوحة الخط العربي فهي من أهم ما يعبر عنا، وهي تستهوي جمهور معرض فرانكفورت الدولي الذي يرتاده ملايين المثقفين والناشرين من مختلف بلدان العالم، وهي فرصتنا الأولى التي تكون فيها الثقافة العربية مجتمعة بهذا الزخم وهي ضيف الشرف في المجتمع الأوروبي، وكان الأمين العام يستمع إليّ باهتمام، مستقبلا حماسي بهدوء دون أن يقاطعني حتى أنهيت كلامي.
وكمن يتدارك ما فاته، قالي لي ببساطة: لديك حق فيما قلته، والتفت إلى الأستاذ محمد غنيم قائلا: كيف لم ننتبه إلى ذلك؟! وأكمل قائلا: كيف نتدارك هذا الأمر؟ وكان معي ملف كامل لتمثيل كل الدول العربية بأهم المبدعين في فنون الخط العربي، ورؤية تتضمن فلسفة وضرورة المشاركة، وأرفقت بها خطة كاملة لآليات المشاركة وخطوات التنفيذ، تصفح الأمين العام الملف بإمعان، وعلى الفور أصدر تعليماته بوضع الخط العربي على قائمة المعارض المشاركة، وبدأت اللجنة التنفيذية العليا في التعامل مع هذا الملف، وأوكل إليّ الأمين العام مهمة "المنسق العام" لهذا المعرض، وطلبت منه أن يختار واحدًا من كبار الخطاطين المصريين أو العرب من أساتذتنا الراسخين، فقال لي بحميمة: "من قام بهذه المبادرة ولفت انتباهنا لأهمية الخط العربي بهذا الحماس وهذه الرؤية لهو الأحق بأن يكمل المهمة حتى يصل بالخط العربي إلى فرنكفورت".
وذهبنا إلى فرانكفورت، وكانت المفاجأة التي أذهلت جميع الوفود العربية هي الإقبال منقطع النظير على جناح الخط العربي لمشاهدة أعمال كبار المبدعين العرب، وجاء ضمن الوفود العربية الفنان ناصر الميمون من المملكة العربية السعودية، ومن أبو ظبي الفنان محمد المندي.
وعدنا من فرانكفورت، يراودنا جميعا حلم لا يبرح قائمة الأمنيات القومية، وهو إقامة ملتقى سنوي للخط العربي بمصر، وبكل العواصم العربية، ومن ثم تسجيل فن الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية بمنظمة اليونسكو.
ومضت الأيام، وبدأت بشائر أمانينا تتحقق، فتوالى تأسيس الملتقيات العربية لفنون الخط العربي في أرجاء وطننا العربي، وكان "معرض دبي الدولي للخط العربي"، قد انطلق من قبل، وتباعًا تألقت في فضاءات الثقافة العربية الملتقيات: في المملكة العربية السعودية، والشارقة والكويت والجزائر والمغرب وأبو ظبي والأردن والعراق ولبنان وسوريا، وغيرها من الملتقيات المهمة.
وفي مصر نجحنا في تأسيس ملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي عام 2015، عندما تقدمت بمشروع متكامل لإقامة ملتقى دائم للخط العربي بلائحته التنفيذية لوزير الثقافة الأسبق د. صابر عرب، الذي أصدر على الفور قرارا بتكليفي بمهمة المنسق العام وترك لي تنفيذ التفاصيل من خلال صندوق التنمية الثقافية، الذي كان يرأسه في ذلك الوقت المعماري الكبير المهندس محمد أبو سعدة، وبالفعل، بدأنا في تدشين الدورة الأولى لملتقى القاهرة الأول لفن الخط العربي بتعاون مشترك بين صندوق التنمية الثقافية، والجمعية المصرية العامة للخط العربي برئاسة الفنان الكبير خضير البورسعيدي نقيب الخطاطين المصريين.
وفي الدورة الثانية لملتقى القاهرة طرحتُ على اللجنة العليا للملتقى فكرة تقديم كتاب تعليمي لصون وحماية قواعد فن الخط العربي، فقدمنا للمكتبة العربية كتاب "أمشاق المدرسة المصرية"، الذي بذل فيه الفنان السكندري يسري حسن جهدا فنيا وبحثيا متميزا، مستعينا بأرشيف نقيب الخطاطين الفنان مسعد خضير، الذي لم يدخر جهدا لدعم هذا المرجع النادر، وصدّرت الكتاب بدراسة عن رحلة الخط العربي في مصر، وأهديت نسخة منه لأستاذنا الدكتور أحمد مرسي، وكان يومها مقررًا للجنة الفنون الشعبية والتراث الثقافي غير المادي بالمجلس الأعلى للثقافة، وكنت أحد أعضاء اللجنة، فطلب مني أن نستعد لتسجيل فن الخط على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي بمنظمة اليونسكو، تمهيدا لعمل إجراءات الصون والحماية، وتبنى الدكتور مرسى هذه المهمة القومية بحماس وبذل جهدا طيبا بعلاقته المتعددة بكبار المسؤولين، لكننا لم نوفق في ذلك، فذهبنا لطرق أبواب أخرى.
وكان د. مرسي قد شغل منصب المستشار الأكاديمي لمعهد الشارقة للتراث، وتلقينا دعوة كريمة من الدكتور عبد العزيز المسلم رئيس المعهد، وتوجهنا للشارقة أنا والدكتور فتحي عبد الوهاب رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية، حاملين كتاب الأمشاق، وعرض د. مرسي المشروع على د. عبد العزيز المسلم، الذي أبدى حماسا طيبا، لكن لا أدرى لماذا توقف مشروع تسجيل الخط العربي عن طريق معهد الشارقة للتراث.
وفي الخامس والعشرين من ديسمبر الماضي 2020، كنت في دبي، واتصلت بي الدكتورة نهلة إمام أستاذة الأدب الشعبي، عضو اللجنة القومية لليونسكو، وقالت: نحن في انتظارك غدا في الاجتماع التنسيقي الأول للإدارة الثقافية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، والتقيت لأول مرة الدكتورة حياة القرمازي، مدير الإدارة الثقافية، وممثلي الدول العربية المشاركة في الاجتماع، وكان الموضوع الذي استدعيت من أجله مفاجأة سارة من العيار الثقيل، فقد تقدمت الجمعية السعودية للحفاظ على التراث (نحن تراثنا) بتكليف من وزارة الثقافة السعودية بمبادرة لتسجيل فنون الخط العربي (المهارات والمعارف والممارسات) على القائمة التمثيلية لليونسكو، وانضمت لهذا الملف 14 دولة عربية من بينها مصر، وقد رشحتني الدكتورة نهلة إمام لأن أتحدث للوفود عن هذا الموضوع، وبدأت في الحديث عن أهمية الخط العربي، ولماذا يجب تسجيله على القائمة التمثيلية للتراث الإنساني، قبل أن تسبقنا به لليونسكو (دول أخرى) لا تتحدث العربية ولا تكتبها، وتسجله على أنه من تراثها الثقافي غير المادي، وباركت بكل الاعتزاز مبادرة المملكة العربية السعودية لقيادة الدول العربية لتقديم الملف من خلالها بإشراف كامل ورعاية كريمة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأسعدني أننا نقترب من تحقيق الحلم الذي راودنا منذ سنوات.
وبدأت الدكتورة حياة القرمازي، التي قادت الاجتماعات باقتدار، في بذل كل الجهود التي تدفع بالحلم إلى أرض الواقع، خاصة أن منظمة اليونسكو طلبت تقديم الملف كاملا قبل 31 مارس 2020، وقررت أن أكون خبيرا دوليا لهذا الملف منذ هذه اللحظة، وبدأ مندوبو اتصال الدول العربية في التحرك السريع لاستكمال قوائم الحصر، والإجابة عن الأسئلة، وانتهى الاجتماع بقرار حكيم من الدكتورة حياة القرمازي بضرورة الانتهاء بأسرع وقت باستكمال قوائم الحصر قبل نهاية يناير، ودعت لاجتماع عاجل في الثاني من فبراير الجاري بالرياض.
وبالفعل عقد الاجتماع التنسيق الثاني لتسجيل الملف في الرياض، بحضور ممثلي 16 دولة عربية، وهي: الأردن والإمارات والبحرين وتونس والجزائر والعراق والسودان وسلطنة عمان وفلسطين ولبنان والكويت ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن.
وفي الجلسة الافتتاحية تحدثت مديرة إدارة الثقافة في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الدكتورة حياة القرمازي فتوجهت في كلمتها التي ألقتها نيابة عن الدكتور محمد ولد أعمر المدير العام لأليكسو، بالشكر للمملكة العربية السعودية على استضافتها الكريمة للاجتماع التنسيقي الخاص بإعداد الملف العربي المشترك الثاني "فنون الخط العربي: المهارات والمعارف والممارسات"، وتبنيها لهذا الملف المهم، وحرصها على بذل تلك الجهود للحفاظ على الموروث الإنساني.
وفي سياق متصل أوضح أمين عام اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم د. هتان بن سمان: "أن القيمة الاستثنائية للخط العربي كانت وستظل محط اهتمام وشغف الخبراء المعنيين بشؤون الثقافة العربية والإرث الإنساني والحضاري على حد سواء".
وأضاف بدوره مدير عام الجمعية السعودية للحفاظ على التراث د. عبد الرحمن العيدان: "من هنا نبدأ قصة تعاون عربي مشترك من خلال ملف فنون الخط العربي بمشاركة 16 دولة عربية"، وتوالت الاجتماعات التي قادتها الدكتورة حياة القرمازي بجهود متواصلة من 2 فبراير حتى 6 فبراير في حوار متصل صباحا ومساءً، من أجل تسجيل الخط العربي على قوائم الحصر عبر ملفات الدول العربية المشاركة، وتقرر في ختام اجتماع الرياض أن تجتمع لجنة الصياغة النهائية للملف المشترك في بداية شهر مارس المقبل (5-9 مارس 2020) ليكون الملف جاهزا لتقديمه لمنظمة اليونسكو قبل يوم 31 مارس، ورحبت كل الوفود العربية بمقترح المملكة أن تكون "الرياض عاصمة الخط العربي لعام 2020".
وأخيرا تحقق حلم تسجيل الخط العربي عبر رحلة طويلة من الصبر والعمل العربي الجاد المشترك.