ثورة يوليو 1952.. وخطة بناء مصنع كل 48 ساعة
كتب - عيسى جاد الكريم
مصانع الصناعات الثقيلة بدأت بصناعة البسكلتة ثم السيارات ووصلت لتصنيع الطائرات
بناء السد العالي ساهم في بناء المصانع التي تحتاج للكهرباء ونظم الري فزادة الرقعة الزراعية
عزيز صدقي أول وزير صناعة عام 1956 أسس للصناعات الضخمة وأنتجت أول سيارة مصرية في عهده
تحويل مصر من الملكية إلى الجمهورية كان هدف ثورة يوليو وتغيير نظام الحكم الذي أقره الضباط الأحرار بعد قيام ثورة يوليو وعزل فاروق وإجباره على التنازل عن العرش لابنه فؤاد في 26 يوليو 1952 ثم إعلان الجمهورية، ذلك كان هدفه تحقيق آمال الشعب وتلبية طموحاتهم وتحويل مصر من دولة تابعه تنتظر ما يصنعه الغرب من صناعات لتستهلكه، خاصة أن الاستمرار في هذا يقيد القرار الوطني ويجعل استقلال مصر وقراره عمليًا غير موجود، ولذلك بدأت مصر والرئيس جمال عبد الناصر في التخطيط لتحويل مصر من بلد زراعي إلى بلد زراعي صناعي ينتج ليوفر ما يحتاجه شعبه، الشيء الذي جعل مصر وقيادتها السياسية تأخذ قرار تأميم شركة قناة السويس دون خوف من حصار اقتصادي قد يضرب عليها وذلك بعد أن أثبتت الوثائق الأمريكية والفرنسية أن شركة قناة السويس التي بنيت بجهد وعرق المصريين قد دفعت من أموال مصر 400 مليون جنيه إسترليني لدعم الجهد العسكري للحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، كما قامت بدفع مبالغ مالية طائلة تقدر بعشرات الملايين للحركة الصهيونية في فلسطين كتبرعات داعمة للمشروع القومي لليهود وكانت سياسة مصر الخارجية تابعة لبريطانيا المسيطرة على أسهم القناة.
فلم يكن العهد الملكي عهد ازدهار اقتصادي كما يروج البعض فكانت قله فقط هي من تسيطر على ثروات مصر المسلوبة سواء من الأسرة الحاكمة والحاشية التي تحيط بهم أو الأجانب والتجار المسيطرين على أقوات الناس والمرابين، ولم تكن مصر ملكا لأهلها.
مجلس قيادة الثورة كان يعلم أن الاقتصاد عليه العبء الأكبر بعد القوة العسكرية في تحقيق الاستقرار للبلد ولذلك وقام المجلس بإصدار خطة الاستثمارات العامة في يوليو 1953 وهي خطة طموحة لمدة 4 سنوات بدأت بمقتضاها الدولة باستصلاح الأراضي وبناء مشروعات الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب، وشركة الأسمدة كيما، ومصانع إطارات السيارات الكاوتشوك، ومصانع عربات السكك الحديدية سيماف، ومصانع الكابلات الكهربائية
ولم يكن التحول الاقتصادي لمصر بالأمر السهل فالأجانب والاحتلال متغلغل في كل شرايين مصر من خلال رجاله وبنوكه والمصانع المملوكة للبنوك أو للأجانب ولن يسمحوا للقيادة الشابة بان تعيد مصر ومقدراتها للمصريين بسهولة. ولذلك وبعد خمس سنوات من قيام الثورة إنشاء الرئيس جمال المؤسسة الاقتصادية عام 1957 والتي تعتبر النواة الأولى للقطاع العام المصري، وألت إليها كل المؤسسات الأجنبية الممصرة التي تم تأميمها.
وكان قرار بناء السد العالي من أهم القرارات الاقتصادية بعد تطوير خزان أسوان وذلك لأهمية السد كمنظم للري والزراعة وبما يساعد في زيادة الرقعة الزراعية، ثم كمصدر مهم من مصادر الكهرباء اللازمة للصناعة وكانت الدول الاستعمارية الغربية تحاول إيقاف المشروع بشتى الطرق سواء من ناحية رفض التمويل أو من ناحية عدم تمكين مصر من الحصول على الخبرات المهمة في بناء السد فلجأت مصر للاتحاد السوفيتي.
وبعد السد العالي، وفى الستينيات تم مد خطوط الكهرباء من أسوان إلى الإسكندرية، كم تم بناء المناجم في أسوان والواحات البحرية وتم تمويل كل هذه المشروعات ذاتيا.
وبإلقاء نظرة على أوضاع مصر عقب نكسة 1967 يتضح لنا أن الاقتصاد المصري تحمل تكاليف إتمام بناء مشروع السد العالي العملاق، ولم يكتمل بناء هذا السد إلا سنة 1970 قبيل وفاة الرئيس عبد الناصر فبينما كانت تخوض مصر حرب استنزاف مستمرة ضد الاحتلال الصهيوني لسيناء كانت مستمرة بكل جهد في بناء السد العالي الذي اختارته الأمم المتحدة عام 2000 كأعظم مشروع هندسي وتنموي في القرن العشرين. كما تم بناء مجمع مصانع الألمونيوم في نجع حمادي وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليارات جنيه وقتها على مساحة 5 آلاف فدان تقريبا بها مجتمع متكامل من إسكان للعاملين ومصانع ومزارع لتربية الماشية ونادٍ رياضي ومحطة كهرباء لخدمة مجمع مصانع الألمونيوم والذي بعد أكثر من 50 عاما على انشائه يجرى الان تطويره باستثمارات حوالي 11 مليار جنيه وذلك لإنشاء الخط السابع للإنتاج ما سيوفر فرص عمل جديدة حيث توقف التوظيف في الشركة منذ عام 2010 ومقرر الانتهاء من التطوير خلال عامين ونصف العام بنهاية 2022.
وعند الحديث عن الطفرة الصناعية التي تحققت بعد ثورة يوليو لا يجب أن نغفل الحديث عن الدكتور عزيز صدقي أول وزير صناعة لمصر، والذي تولى وزير الصناعة عام 1956 وكان عمره وقتها 35 سنة والذي يلقبه البعض بأبو الصناعة في مصر وذلك لأنه وضع خطة من بعد تكليفه بالوزارة لإنشاء المصانع في الصناعات المهمة ومنها صناعة السيارات وصناعة الأدوات المنزلية البوتاجازات والثلاجات والغسالات.
عدد من القلاع الصناعية الكبرى في المحلة الكبرى وكفر الدوار وشبرا الخيمة وفي حلوان ومجمع الألومنيوم بنجع حمادى، والمصانع الحربية، والمشاريع الضخمة كالسد العالي، مشروعات ضخمة ساهمت بشكل كبير في الارتقاء بالمجتمع المصري وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج القومي وتحقيق نسبة نمو خلال الفترة من عام ١٩٥٧– ١٩٦٧ بلغت ٧٪ سنويا، بحسب تقارير البنك الدولي وقتها، ما يعني أن مصر استطاعت في عشر سنوات من عصر عبد الناصر أن تحقق تنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه في الأربعين سنة السابقة في العصر الملكي الذي كانت لا تمثل الصناعة إلا 10% فقط من حجم الناتج المحلي الإجمالي.
وأول مبلغ اعتمدته الدولة للصناعة كان ١٢ مليون جنيه في ميزانية سنة ١٩٥٨ ضمن الخطة التي وضعها عزيز صدقي، وكان أول مساهمة للدولة بأموالها في إقامة الصناعة، أي بداية التطبيق لوجه النظر الاشتراكية في مصر، لأن أساس التطبيق الاشتراكي هو تكوين القطاع العام، وكان هذا قبل التأميم الذي تم بعد ذلك. وتم استغلال المصانع التي أممت في توسعتها وتطويرها لتكون ضمن مصانع القطاع العام وقال عزيز صدقي في أحد الحوارات الصحفية تأكيدا لحجم الإنجازات إن الرئيس جمال عبد الناصر في عام ٦١ خطب في ميدان عابدين وقال إن عزيز صدقي بنينا الف مصنع وأنا هطلب بيان بالمصانع اللي اتبنت وفعلا عملنا إحصاء بالمصانع اللي اتبنت فوجدناها أكثر من الف مصنع بما يعني اننا كنا بنبني مصنع كل 48 ساعة وحجم العمل شغال ومتواصل والرئيس كان بيحرص على افتتاح المصانع الكبرى بنفسه وكان يفتخر أنه يلبس ويركب ويأكل من صناعات مصرية.
مصنع الحديد والصلب بحلوان
تم إنشاء مصنع الحديد والصلب بحلوان وهو من المصانع الضخمة والذي بدأت فكرة إنشائه في مصر عام 1932 بعد توليد الكهرباء من خزان أسوان، وتحول الحلم لحقيقة بعدما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر مرسومًا بتأسيس شركة الحديد والصلب يوم 14 يونيو 1954 في منطقة التبين بحلوان، كأول مجمع متكامل لإنتاج الصلب في العالم العربي برأس مال 21 مليون جنيه، تم الاكتتاب الشعبي لإنشاء المشروع، وكانت قيمة السهم جنيهين، وفي 23 يوليو 1955 قام "عبد الناصر" مع أعضاء مجلس قيادة الثورة بوضع حجر الأساس الأول للمشروع على مساحة تزيد على 2500 فدان شاملة المصانع والمدينة السكنية التابعة لها، والمسجد الملحق بها، وتم توقيع عقد مع شركة ديماج ديسبرج الألمانية (ألمانيا الشرقية آنذاك) لإنشاء المصانع وتقديم الخبرات الفنية اللازمة، وبالرغم من ظروف العدوان الثلاثي سار العمل بهمة ونشاط في بناء المصنع، ولقي المشروع الوليد معاونة صادقة من كل أجهزة الدولة، وما تم تشغيل ميناء الدخيلة لتوريد الفحم اللازم لتشغيل الأفران، وكذلك خط سكك حديد من الميناء تصل إلى حلوان، وخط سكك حديد آخر لتوصيل خام الحديد من الواحات إلى حلوان، وفي شهر نوفمبر من عام 1957، كانت الأفران الكهربائية الخاصة بصهر الحديد بدأت أعمالها بالفعل، وفي 27 يوليو 1958 افتتح "عبد الناصر" الشركة الوليدة لتبدأ الإنتاج في نفس العام باستخدام فرنين عاليين صُنعا بألمانيا، وتمت زيادة السعة الإنتاجية للمجمع باستخدام فرن عالٍ ثالث صناعة روسية عام 1973، لحقه الفرن الرابع بغرض زيادة إنتاج الشركة من الصلب عام 1979، ليضم المجمع بذلك أربعة أفران عالية ويجرى الآن تطوير مصانع الشركة بتنفيذ فرن جديد بها ومن المنتظر أن يتم التجديد من خلال شركة روسية أو صينية.
إنتاج البسكلتة والسيارات لأول مرة
وضع الدكتور عزيز صدقب وزير الاقتصاد خطة للاعتماد على الإنتاج الذاتي فأنشأ شركة النصر للسيارات ويوم ٢١ يوليو ١٩٦١ افتتح الرئيس جمال عبد الناصر شركة النصر لصناعة السيارات ومعه عزيز صدقي وزير الصناعة وتنكو عبد الرحمن رئيس حكومة الملايو.
جاء افتتاح الشركة تحقيقا لحلم رواد الرئيس كثيرًا حول فكرة تصنيع سيارة بمكونات مصرية خالصة وبدأت فكرة إنشاء الشركة أواخر عام ١٩٥٧ فأصدر الرئيس قرارًا وزاريًا بتشكيل لجنة تضم في عضويتها عددا من الضباط الأحرار وانتهى إسناد المشروع إلى شركة كلوكنر هيولدت دوتيز ووقع معها العقد في فبراير ١٩٥٩ وأصدر الرئيس قرارًا جمهوريًا رقم ٩١٣ لسنة ١٩٦٠ بتأسيس شركة النصر لصناعة السيارات كأول شركة في صناعة السيارات في مصر والعالم العربي، وقد عملت الشركة على تصنيع البسكلتة "الدراجة الهوائية" وكانت مصر تستوردها وقتها فقررت إنتاجها أولًا من خلال المصانع الوطنية ويحكي عزيز صدقي في أحد حواراته الصحفية عن بداية التنمية الصناعية فيقول لكي أنفذ البرنامج الذي تم وضعه كان لا بد من تشجيع الناس على وضع أموالها في الصناعة. كنت أدعو الناس، وكانت المحافظات تتنافس على الأماكن التي تقام فيها المصانع، فكنت أقول لهم: كونوا رأس المال المطلوب وأنا مستعد للمساعدة.. وبالفعل كانوا يأتون ومعهم رأس المال ويتنافسون عندي في المكتب.. وسرنا في هذا الطريق، والبرنامج الذي كان مقدرا له ٥ سنوات للتنفيذ وقيل إنني أحلم.. تم تنفيذه في ٣ سنوات.
وعقب العدوان الثلاثي تم تمصير وتأميم الأموال البريطانية والفرنسية في مصر، وتم إنشاء المؤسسة الاقتصادية عام ١٩٥٧، التي تعتبر النواة الأولى للقطاع العام، وآلت إليها كل المؤسسات الأجنبية الممصرة، وتم إنشاء شركة النصر للسيارات بحلوان والتي بدأت إنتاجها بتصنيع الدراجات الهوائية وكان من عادة الرئيس جمال عبد الناصر ان يقوم بعمل عرض عسكري في عيد ثورة يوليو في استاد القاهرة وقد فاجأه عزيز صدقي بتصنيع أول سيارة ركوب مصرية من نوع فيات الإيطالية ولواري النقل، وكانت السيارات يتم تصنيعها بالحجز وتسليمها بالدور حتى إن عزيز صدقي يحكي أن شقيق عبد الحكيم عامر جاء لمكتبه وطلب شراء ثلاث سيارات له ولأبنائه فقال له حجزت؟ فرد أنا اخو عبد الحكيم عامر.. امال انا جاي لك ليه؟ قله لو جاي لى عشان كده فاعتبر انك ماجتش لي المكتب اصلا، لو عايز سيارة انتظر دورك واحجز.
مصانع الغزل والنسيج
كانت مصر قبل الثورة من الدول المنتجة للقطن وكان له بورصة بالإسكندرية وعدد محالج القطن قليل ومعظمه لا تملكه الدولة ومملوك للأجانب وبعد الثورة وفي ظل التوسع الزراعي ووضع نظام للإرشاد الزراعي توسعت مصر في زراعة القطن وقررت الدولة الدخول بقوة في بناء مصانع الغزل والنسيج ومحالج القطن، حيث كان إنشاء مصانع غزل المحلة يهدف بالأساس إلى إنشاء مصانع توفر الزي العسكري للجيش والشرطة، والذي كان قبل ذلك يتم استيراده من مصانع إنجليزية ثم تحول الإنتاج بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي للجيش لتصنيع الملابس المدنية بجميع أنواعها وتنوعت المصانع وانتشرت حتى وصلت لـ٢٥ مصنع غزل ونسيج و٢٣ محلجا منتشرة في معظم محافظات مصر من كفر الدوار والمحلة إلى المنيا وأسيوط والفيوم والإسكندرية.
تأميم بنك مصر والشركات التابعة له
في ١٣ فبراير ١٩٦٠، أمم الرئيس عبد الناصر بنك مصر، أكبر مصرف تجاري في البلاد، وكل الشركات الصناعية المرتبطة، بعدما سقط هذا الصرح العملاق تحت سيطرة الاحتكارات البريطانية والأمريكية، استرده عبد الناصر لمصر، وفي يوليو ١٩٦١، صدرت القرارات الاشتراكية، وبدا واضحا أن النظام يتجه نحو نوع من الاقتصاد المخطط تحت إشراف الدولة وبقيادة القطاع العام.
واستطاعت مصر عبر تلك الإجراءات تحقيق نسبة نمو من عام ١٩٥٧–١٩٦٧ بلغت ما يقرب من ٧٪ سنويا، ما يعني أن مصر استطاعت في عشر سنوات من عصر عبد الناصر أن تحقق تنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه في الأربعين سنة السابقة في عهد الملكية، متفوقة على العديد من الدول الصناعية الكبرى، مثل إيطاليا التي حققت نسبة نمو تقدر بـ٤.٥٪ فقط في نفس الفترة الزمنية وأنشأت مصر في أقل من خمس سنوات أكثر من ١٢٠٠ مصنع ضخم في صناعات استراتيجية.
وتحمل الاقتصاد المصري عبء إعادة بناء الجيش المصري من الصفر وبدون ديون خارجية، وكانت المحلات المصرية تعرض وتبيع منتجات الصناعة المصرية من مأكولات وملابس وأثاث وأجهزة كهربية، وفي ظل النكسة حافظت مصر على نسبة النمو الاقتصادي قبل النكسة بل إن هذه النسبة زادت في عامي 1969 و1970 وبلغت 8% سنويا بحسب تقارير البنك الدولي واستطاع الاقتصاد المصري بعد النكسة عام 1969 أن يحقق زيادة لصالح ميزانه التجاري لأول مرة في تاريخ مصر بفائض قدرها 46.9 مليون جنيه بأسعار ذلك الزمان وكان ذلك مهمًا لكي تستعيد مصر عافيتها استعدادًا لحرب الكرامة في أكتوبر عام 1973.