تستطيع الآن سماعه.. لحن فيلسوف العرب المسافر عبر الزمن
كتب - محمد نسيم
تراث مدفون (13)
(نصوص عربية، ننفرد بنشرها)
تراث مدفون (13)
(نصوص عربية، ننفرد بنشرها)
...
خلال الحلقات السابقة من هذه السلسلة، التزمنا بتقديم مجموعة من النصوص العربية القديمة النادرة، التي لا تزال مدفونة في المخطوطات المحفوظة، في العديد من المكتبات ومتاحف المخطوطات القديمة، في العديد من أنحاء العالم، والتي لم يسبق أن رأت طريقها إلى النشر بأي وسيلة من وسائل النشر الحديثة.
لكن تراثنا العربي القديم ــ الذي لا يزال معظمه مدفونا ــ لا يقتصر على النصوص فقط.
في هذه الحلقة من حلقات هذه السلسلة، نقدم، لأول مرة، صوتا مسموعا لأقدم مؤلَّف موسيقي عربي في التاريخ، يزيد عمره على ألف ومائتي عام.
...
بالإضافة إلى كون الموسيقى فنا من الفنون وصنعة من الصناعات، عرفها فلاسفة المسلمين الأوائل على أنها علم من العلوم، وتحديدا من العلوم الرياضية، ودرسوها عن الفلاسفة اليونانيين وغيرهم، وألفوا فيها العديد من الكتب والرسائل والأبحاث.
وكان من هؤلاء الفلاسفة أولهم على الإطلاق، الفيلسوف العربي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185: 252هـ)، فقد ألَّف في علم الموسيقى وحده عشرة من مؤلفاته.
وقد ظلت مخطوطات هذه المؤلفات ضائعة في متاحف العالم، بين المتحف البريطاني وأكسفورد وبرلين وتركيا، وغيرها من المكتبات والمتاحف العالمية، إلى أن قام زكريا يوسف بتحقيق خمسة من هذه المؤلفات وجمعها في كتاب واحد بعنوان (مؤلفات الكندي الموسيقية)، سنة 1962م.
لكن الكندي، في علاقته بالموسيقى، لم يكن مجرد فيلسوف وعالم بالموسيقى كأحد العلوم الفلسفية المنقولة من اليونانيين، لكنه ــ بالإضافة إلى ذلك ــ كان عازفا على آلة العود، ومؤلفا للألحان الموسيقية، بل كان أيضا معالجا بالموسيقى.
ونعرف مما روي عنه من الأخبار أنه قام بعلاج رجل كان قد دخل في سكرات الموت، بأن أمر أربعة من تلاميذه في الموسيقى بأن يعزفوا، فوق رأسه، لحنا خاصا قام بتحديده لهم، وأن يستمروا في عزفه، حتى أفاق الرجل من غيبوبته، وتكلم مع أهله فيما يهمهم من الأمور، ثم مات بعد ترك وصيته.
وفي بعض رسائله التي تم تحقيقها كلام بالتفصيل عن تأثير الموسيقى في النفس والجسد، وكيفية استخدامها في علاج الأمراض المختلفة.
كل هذا وغيره أصبح متاحا لنا الآن أن نعرفه، بعد تحقيق العديد من رسائله في الموسيقى وظهورها إلى النور. لكن الجديد الذي نقدمه هنا (مسموعًا، لأول مرة) هو مقطوعته التي قام بتأليفها بنفسه، والتي قام بتدوينها في رسالته الواصلة إلينا بعنوان (رسالة الكندي في اللحون والنغم)، والتي ألفها للأمير أحمد، ابن الخليفة المعتصم العباسي.
في هذه الرسالة، يقدم الكندي وصفا تفصيليا لآلة العود، التي يسميها (آلة الحكماء)، بشكلها ومقاساتها ونسب أبعاد أجزائها، بالإضافة إلى مواضع دساتينها (أماكن استخراج النغمات من الأوتار)، وكيفية ضبط أوتارها، والعزف عليها، بالتفصيل الدقيق.
ثم يختم رسالته بوصف تفصيلي لكيفية أداء معزوفة موسيقية على آلة العود، تكون بمثابة تدريب لأصابع اليدين على الحركة والتنقل بين الأوتار والدساتين.
وقد قام محقق الرسالة (زكريا يوسف) بتحويل هذا النص إلى مدوَّنة موسيقية، بطريقة التدوين الموسيقي الحديثة، وكذلك قام غيره بالعمل نفسه. وبهذا أصبح تحت أيدينا أقدم مقطوعة موسيقية عربية معروفة في التاريخ، من تأليف أول فيلسوف عربي، وهو (الكندي)، يرجع تاريخها إلى ما يقرب أو يزيد قليلا على 1200 سنة.
وهذه صورة التدوين الحديث لمقطوعة الكندي، كما دوَّنه محقق الرسالة:

وللأسف، ورغم تمكننا من معرفة تفاصيل هذا اللحن بالضبط، فإنه ــ كما تأكدنا ــ لم يقم أحد بمحاولة عزفه، منذ تحقيق رسالة الكندي، وإلى وقتنا هذا.
ومن أجل الاستماع إلى هذه المقطوعة الموسيقية، قمنا باستخدام أحد البرامج الإلكترونية المختصة بتحويل النوتات الموسيقية إلى صوت مسموع (البرنامج المستخدم هنا هو: power tab editor). وهكذا يمكننا سماع أقدم عمل موسيقي عربي، بل أقدم مؤلَّف موسيقي في تاريخ آلة العود كله، الممتد إلى ما يقرب من خمسة آلاف سنة من الآن.
في الفيديو التالي:



