دماء الخيول.. السلاح الخفي في معركة الأمصال
رحلة السم والترياق.. من أنياب الأفاعي إلى كواليس صناعة الأمصال في مصر
سارة هليل
في ليلٍ صحراويٍّ تختبئ فيه ملامح القمر خلف سُحبٍ معلّقة من الغبار، تتحرك الأفعى فوق الرمال بصمتٍ حاد، تلمع قشورها كدرعٍ قديم صاغته الطبيعة الأولى من الغموض والخطر.
كائنٌ يثير الخوف، لكنه يحمل في ذات الوقت حقًا أصيلًا في الوجود، بين سمٍّ قادر على إسقاط الضحية في دقائق، ودور بيئي لا يمكن تجاهله.
وفي الجهة المقابلة، بعيدًا عن رمال الصحراء، تقف خيول ضخمة داخل مختبرات صناعة الأمصال، تُحقن بجرعات متناهية الدقة من السموم، لتفرز بلازما تتحول إلى طوق نجاة ينقذ حياة آلاف البشر. خيول تُعامل بعناية طبية صارمة، وتخضع لفحوص دورية، لأنها تمثل الحلقة البيولوجية الأهم في منظومة مكافحة السموم.
غير أن هذا المشهد العلمي لا يخلو من مفارقات لافتة؛ فبعض الأمصال الضرورية التي يحتاجها سكان الأردن والمنطقة العربية لا تُصنّع محليًا، وتُجلب عبر ترتيبات معقدة من داخل مناطق الاحتلال الإسرائيلي، عبر فلسطينيي الـ48، ما يضع ملف تأمين مضادات السموم في قلب قضايا الأمن الصحي العربي.
وللاقتراب من هذا العالم شديد الغموض، أجرت “بوابة روزاليوسف” حوارين موسّعين مع اثنين من أبرز المختصين في المنطقة: ياسين عبد الكريم حسن أبو صقر، صائد وخبير الأفاعي الأردني،وعضو فريق التطوع الأردني لعشاق الافاعي الذي أمضى أكثر من 40 عامًا في التعامل مع الزواحف السامة. والدكتور عبد الوهاب خليل، المدرس بكلية العلوم بجامعة بني سويف، استشاري صناعة الأمصال في مصر، وعضو اللجنة الوطنية للسموم "سابقا".
ياسين أبو صقر.. أربعة عقود مع الأفاعي في مواجهة الجهل والخوف
بهدوء الواثق، يروي «أبو صقر» بدايته في هذا المجال قائلاً إنه ورث المهنة عن والده منذ أكثر من أربعين عامًا. وعلى الرغم من النظرة السلبية المتجذرة تجاه الأفاعي، يؤكد أنها كائنات لها دور بيئي محوري و«حق في الحياة»، لكن المجتمع المحلي يتعامل معها باعتبارها عدوًا يجب قتله فورًا.
ويشير إلى أن دخوله هذا العالم كان محفوفًا بالمخاطر، وتعرّض في بداياته لقضايا قانونية، لكنه أصرّ على الاستمرار بهدف نشر الوعي بأن الأفاعي جزء من توازن الطبيعة.

أنواع الأفاعي في الأردن والمنطقة العربية
يوضح أبو صقر أن بلاد الشام تضم 39 نوعًا من الأفاعي:
7 أنواع سامة
32 نوعًا غير سامة ورغم أن معظمها غير خطير، إلا أنها تُقتل دون تمييز بسبب ضعف الثقافة البيئية.
أخطر الأفاعي السامة
ويعدد أبو صقر أخطر الأنواع في المنطقة:
1ـ الخريف الأسود أو الأفعى الصامتة القاتلة "Vipera palaestinae"
لدغتها قد تقتل خلال 40 دقيقة، وتظل سامة حتى بعد قتلها لمدة 24 ساعة.

2ـ الرقطاء الفلسطينية "Daboia palaestinae"
سمّها يُهاجم الدم مباشرة، ولا يوجد لها مصل في الدول العربية؛ الترياق الوحيد متوفر في إسرائيل عبر فلسطينيي 48، والجرعة الواحدة 10 مم يبلغ سعرها 1800 دولار.

3ـ الحراشف المنشارية "Echis carinatus"

4ـ القرناء الكاذبة أو أم جنيب "Cerastes gasperettii"

5ـ الصل الأسود "Walterinnesia aegyptia"
لدغته تؤثر على الجهاز العصبي.

6ـ القرناء العربية "Cerastes cerastes"

7ـ أفعى المشرق السورية "Macrovipera lebetina"

نقل الأفاعي بين الدول
يؤكد أبو صقر أن نقل الأفاعي يخضع لتصاريح رسمية من وزارات الزراعة، ويتم داخل صناديق بلاستيكية مطاطية محكمة تجنبًا لأي تسرب أو حوادث.
سلوك الأفاعي
غير السامة: تظهر غالبًا نهارًا.
السامة: تنشط غالبًا ليلًا.
وهو ما يجعل كثيرًا من الناس يقتلون غير السامة نتيجة الخوف وعدم الوعي.
نصائح السلامة للمواطنين
تفقد الأماكن قبل دخولها.
تجنب ترك مخلفات الطعام قرب المنازل.
سد الشقوق وتنظيف النباتات المرتفعة.
تجارب شخصية مع اللدغات
يتحدث أبو صقر عن ثلاث لدغات تعرض لها، الأولى في عمر 21 عامًا، وكانت بداية ارتباطه الشديد بالأفاعي.
ويكشف أن عادات الإسعاف الخاطئة؛ مثل «ربط الجرح» قد تضر أكثر مما تنفع، موضحًا أن الصحيح هو تهدئة المصاب وصب ماء بارد قرب القلب لإبطاء انتشار السم.
ويشير إلى أن السموم بروتينات عالية التركيز، قد تصل للقلب خلال ساعة إلى أربع ساعات، ويمكن بإجراءات صحيحة إبطاء تأثيرها حتى 24 ساعة.

رسالة بيئية
يشدد أبو صقر على ضرورة احترام حقوق الكائنات، منتقدًا التدمير البشري للطبيعة، وضاربًا مثالًا بطائر المينا الذي وصل إلى مصر من الهند وأصبح يفترس الأفاعي المحلية ويستولي على أعشاشها.
ويختتم بتوجيه الشكر للمصريين في الأردن لدعمهم جهود التوعية، مشيرًا إلى أن الترياقات تصل للأردن عبر المسافرين ومن عرب الـ48 لضمان توفير مضادات السموم.
د. عبد الوهاب خليل: مصر في قلب معركة الأمصال والسموم
في الجزء الثاني من التحقيق، يكشف الدكتور عبد الوهاب خليل عن الدور الاستراتيجي لمصر في تصنيع الأمصال، مؤكدًا أن هذا المجال جزء أصيل من الأمن القومي الصحي للدولة.

المصل واللقاح.. ما الفرق؟
"اللقاح" هو أنتيجين ميت أو مُضعّف يحفز الجسم لإنتاج أجسام مضادة قبل التعرض للمرض، بينما "المصل" أجسام مضادة جاهزة تُعطى بعد دخول السم أو الفيروس للجسم.
منظومة مصر في إنتاج الأمصال
يؤكد د. عبد الوهاب على أن مصر من أوائل الدول العربية التي أسست صناعة الأمصال، إلى جانب السعودية وتونس والجزائر، موضحًا أن الدولة المصرية حرصت منذ عام 1796 تاريخ تأسيس المؤسسة «الشركة القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات» على امتلاك «سر المهنة» لضمان استقلال القرار الصحي، وعدم استيراد هذه الأمصال من الخارج.
وقد أجرت مصر دراسات على أخطر الأفاعي في بيئتها، وهي:
الكوبرا المصرية "Naja haje"
القرناء العربية "Cerastes cerastes"
الثعبان البخّاخ "Hemachatus haemachatus"
وتم إنتاج مصل عديد التكافؤ يغطي معظم أنواع السموم المنتشرة في مصر والمنطقة، بينما تعتمد بعض الدول على الأمصال أحادية التكافؤ المتخصصة في نوع واحد فقط.
تصدير الأمصال ودعم الدول العربية
تنتج مصر الأمصال من خلال الخيول، وتصدرها لدول الشرق الأوسط وأفريقيا. وتقوم دول عربية لا تصنع أمصالًا بإرسال سموم أفاعيها إلى مصر، ليتم تصنيع المصل وإعادة تصديره لها.
دور الخيول في صناعة الترياق
يوضح خليل أن اختيار الخيول يعود إلى حجمها الكبير وقدرتها على توفير من 30 إلي 40 لتر بلازما، حقنها بجرعات «تحت المميتة» لتكوين أجسام مضادة دون إيذائها، فحصها شهريًا لصورة الدم ووظائف الكبد والكلى.
كما يتم استبعاد الحصان بعد 4 أو 5 سنوات ليعيش حياته الصحية دون استخدامٍ آخر.

















