

أحمد باشا
المراسلون العسكريون.. جنود القلم فى ملحمة أكتوبر
حين نحتفل بذكرى السادس من أكتوبر، تتجه الأبصار عادة إلى ميدان المعركة، إلى الجنود الذين عبروا القناة وحطموا خط بارليف، وإلى القادة الذين صاغوا بدماء الرجال معجزة عسكرية تُدرَّس حتى اليوم.
لكن ذاكرة الأمة - فى عدالتها - لا تغفل جنودًا آخرين لم يحملوا البندقية، بل حملوا القلم والكاميرا والميكروفون، ليصنعوا بمداد الكلمة ما صنعه المقاتلون بوهج الدم، هؤلاء هم المراسلون العسكريون، أبناء الصحافة الذين جسّدوا أن الكلمة قد تكون جبهة، وأن الخبر قد يصبح سلاحًا، وأن المقال يمكن أن يكون معركة فى الوعى لا تقل أثرًا عن معركة الدبابات والمدفعية.
فى سبعينيات القرن الماضي، لم يكن العالم قد دخل عصر «السوشيال ميديا»، ولا كان التليفزيون حاضرًا فى كل بيت، كانت الصحيفة القومية - الأهرام، الأخبار، الجمهورية - هى اللسان الناطق باسم الوطن، والجسر الواصل بين الجبهة والبيت.
وفى تلك اللحظة الفارقة، كان دور المراسل العسكرى أن يكتب للناس لا فقط ما يجرى على الأرض، بل أن ينقل لهم روح المقاتل، أن يبدد الخوف، ويزرع الثقة، ويرسم بالكلمات طريق النصر قبل أن تدق ساعة العبور.
منذ هزيمة يونيو 1967 وحتى فجر السادس من أكتوبر، عاش المصريون على ما خطّته أقلام هؤلاء المراسلين، كانوا شهودًا على حرب الاستنزاف، ينقلون قصص الكمائن الباسلة والاشتباكات اليومية، ويروون كيف رفض جندى أن ينسحب من موقعه، وكيف أقسم ضابط أن يبقى واقفًا ولو كان الثمن حياته، لقد أعادوا للناس الثقة بعد الانكسار، وصاغوا الوعى الجمعى الذي جعل النصر ممكنًا.
إن بطولات المراسلين العسكريين لم تكن محض «تغطية صحفية»، بل كانت مشاركة فعلية فى المعركة، كثيرون منهم رابطوا مع الجنود فى الخنادق، أصيبوا كما أصيب المقاتلون، وواجهوا الخطر ذاته، بعضهم وثّق عمليات تبادل الأسرى، وآخرون رافقوا الجنود فى العبور، فكتبوا شهادات حيّة صارت فيما بعد وثائق تاريخية. ولولا حضورهم، لسقطت من ذاكرة الأمة تفاصيل لا تُقدّر بثمن؛ كيف واجه جيل كامل الخوف والرصاص ليحرر الأرض.
لقد وعَت الدولة المصرية، ومعها المؤسسة العسكرية، قيمة هذا الدور، ولم تنسَه أبدًا، فكما كرّمت قادة الجبهة وأبطال الميدان، حرصت على أن تضع المراسلين العسكريين فى موضع التقدير، باعتبارهم شركاء حقيقيين فى صناعة النصر، كانت كلماتهم امتدادًا لطلقات المدافع، وكانت مقالاتهم صدى لبطولات الجنود. ولهذا، ظلوا دائمًا موضع تكريم، يُستدعون فى المحافل الوطنية، وتُذكر أسماؤهم فى سجلات النصر، لأن الأمم التي تعرف قيمة الكلمة لا تفرّط فى جنود القلم.
لقد قدّمت الصحافة القومية جيلًا ذهبيًا من هؤلاء المراسلين،أقلامًا آمنت أن الصحفى ليس مراقبًا من بعيد، بل شاهد فى قلب النار. ومن بين هذا الجيل كان لعائلتى شرف أن تقدّم واحدًا من أبنائها.
عمى الراحل القدير الأستاذ محمد باشا، مدير تحرير الأهرام، الذي عاش على الجبهة شهورًا طويلة، مشاركًا الجنود المخاطر والبطولة، حتى صار قلمه الشخصى وسامًا على صدر الصحافة الوطنية، لم يكن مجرد ناقل للأحداث، بل فاعل فى صناعة وعى النصر.
إن ذكرى أكتوبر لا تكتمل إلا باستحضار هؤلاء، فهم الذين حفروا بأقلامهم الذاكرة الوطنية، وحموا تفاصيل البطولات من أن تذوب فى صمت الأيام، وإذا كان الجيش قد حرر الأرض، فإن الصحافة القومية حررت الوعي، وسجّلت للتاريخ أن مصر لا تنسى أبناءها، سواء حملوا السلاح أو حملوا القلم.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على العبور، يبقى المراسلون العسكريون عنوانًا على أن النصر ليس فقط جهد دبابة أو خطة قائد، بل أيضًا حصيلة قلم صادق وضمير وطني حرّ.
لقد كانوا، بحق، جنود القلم، الذين أكملوا ملحمة أكتوبر من الخنادق إلى الصفحات، ومن صوت المدفع إلى صوت الكلمة، فكان النصر معجزة عسكرية، وملحمة إعلامية فى آن واحد.
نقلًا عن مجلة روزاليوسف