عاجل
السبت 1 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مصر للبترول
مصر للبترول
مصر للبترول
مصر للبترول
البنك الاهلي
المؤثرون والمتأثرون "9"

طه حسين أبصر.. بعيون سوزان

المؤثرون والمتأثرون "9"

قصة انتصار د. طه حسين على العجز، ونجاحه في الوصول، وتحقيق الهدف رغم الإعاقة بالاعتماد على الإصرار والعزيمة عرضها في سيراته الذاتية ”الأيام”.



 

ولقد نالت شهرة وذيوعًا ربما لم يتحققا لنص آخر، حتى إن الجزء الأول منها تقرر على المدارس الثانوية لدراسته في مصر، وما زال كتابه الذي مضى عليه نحو 80 عامًا مطلوبًا من القراء، وتصدر «دار المعارف» طبعة جديدة منه كل عام، اللغُة التي كُتبت بها الأيام هي لغة طه حسين التي تطورت بعد ذلك، لغة نادرة لها سماتها الخاصة، تزخر بلُغة تخلّصت منذ وقت مبكر من الحشو والمحسنات، قائمة على استبعاد الكثير من العبارات لصالح التكثيف والإبقاء على الجوهر وتجنب أي زيادة، مع الحفاظ على رصانة وجزالة تخص طه حسين وحده.

 

قصة حياة طه حسين حكاها في كتابه "الأيام" بأجزائه الثلاثة، الأول في 124 صفحة يعبر عن عالم القرية يكتب عن الروائح والأصوات، كأنه يراها ويرى الدنيا من خلاله، فَقَد طه حسين بصره في سن لا يكاد يتذكره، وما يتذكره هو السائل الذي يُقطّر في عينيه ليقضي عليهما تمامًا، شأنه شأن الكثيرين من أبناء الفلاحين الفقراء. أما بيت أبيه فمن البيوت شبه المستورة. الأب يعمل موظفًا صغيرًا، ومن الأتباع القريبين لأحد مشايخ الطرق الصوفية، وينتهي ذلك الجزء بتحقيق الحلم الذي تمّناه، وهو السماح له برفقة أخيه إلى القاهرة، حيث الأزهر و"حيث يعيش على خبز الأزهر، يُنفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود". والثاني 179 صفحة ينتقل فيها للقاهرة ليجاور الأزهر الشريف، وهو ملقى في حجرة لا يغادرها، ولا يشغل إلا مكانًا ضيقًا منها، داخل ربع يمتد وتتفرع منه حارات وأزقة تصل حتى أروقة الجامع الأزهر. يسكن مع أخيه المجاور في الأزهر ومع طلاب آخرين، يدخلون ويخرجون أو يتناولون طعامهم أو يستذكرون دروسهم دون أدنى التفات له. أما هو فيستخدم المكان للانتظار والجلوس، وعندما يأتي وقت النوم، ينام في المكان نفسه، سجن يشبه سجن القرية.

 

يتبين الصبي ما حوله رويدًا، ويتلمس الطريق إلى الأزهر بعد أمتار قليلة من الغرفة التي يسكنها مع أخيه، ثم يتلمس الطريق إلى الأروقة داخل الأزهر، ويبدأ في حضور دروس المشايخ.. كتب بعد أن حضر درس النحو: «وظل الصبي- طه بالطبع- في مكانه حتى يعود أخوه فيجذبه في غير رفق، ويمضي به حتى يخرجه من الأزهر، مفعم بالألم - طريق شاق ومؤلم للصبي الكفيف الفقير الذي كان يعتمد أساسًا على خبز الأزهر المجاني، ويُصرف للمجاورين وفق قواعد صارمة.

عُرف الصبي بين المشايخ الذين يتولون التدريس، بحبه للمناقشة وكثرة الأسئلة، والنقد والاعتراض، وربما لم يُكتب في العربية نص عن الأزهر والربع الملاصق له، يماثل نص هذا الصبي الكفيف الذي رأى بمشاعره وأحاسيسه، واندفع في تحصيل العلم والاعتراض على المشايخ ومناقشتهم وتلقي السخرية والسبّ منهم، حتى انقضت السنة الأولى، ثم الثانية وها هو يستقبل الثالثة. وفي الاختبار رسب في الأزهر، لكنه كان قد تعرّف على بيئة الأفندية من العاملين بالصحافة، وعندما أنشئت الجامعة أنقذته من الضياع، كان متعينا عليه بصحبة خادم صغير خصصته الأسرة له أن يواصل دراسته بالأزهر في الصباح، وإلى دروس الجامعة في المساء، ثم ضعفت صلته بالأزهر، ولم يعد يذهب إليه إلا مرة أو اثنتين، وكان قد أنفق في الأزهر أربع سنوات ويتبقى له ثمانية أعوام.

 

الجزء الثالث من الأيام يبدأ بالحكي عن مرحلة هى مفترق طرق بالنسبة له. فلقد كره الدراسة في الأزهر ومنهجه وجموده وقيامه على الحفظ والتلقين، ولم يعد بوسعه الاستمرار، كما كان مهددًا بالرسوب وضياع مستقبله تمامًا، إلا أنه سمع بإنشاء الجامعة المصرية، خاف ألا تقبله لأنه كفيف. لكن تم قبوله، أحب المناهج وطرق التدريس. انفتحت الدنيا أمامه، حتى إنه تلقى خبر رسوبه في امتحان العالمية الأزهرية ببرود، فلم يكن الرسوب بسبب ضعف مستواه العلمي، بل بصدور قرار من الشيخ الأكبر بإسقاطه مهما كانت الظروف بسبب مناقشاته وجداله وهجومه المستمر على المناهج.

 

في "الأيام" يذكر طه حسين، أسماء شخصيات تأثر بها، و أعجب بأصحابها مثل الشيخ المرصفي والشيخ عبد العزيز جاويش والشيخ رشيد رضا، ومن الأفندية لطفي السيد، وعرف طريقه لبعض دور الصحف وبدأ في نشر بعض مقالاته، وتطاول في بعضها على قامات كانت مشهورة آنذاك مثل المنفلوطي، وللمرة الأولى في حياته يحضر ندوة أدبية تقيمها سيدة في بيتها وتجلس بين الرجال وهي الآنسة مي زيادة، رحبّت به وتبادلت معه حديًثا ليس قصيرًا!.

 

ذكاء الفتى ونبوغه قاده لتعلم الفرنسية من خلال عدد من الأساتذة الأجانب والمصريين، ولحُسن الحظ أن إحدى الصحف نشرت إعلانًا من الجامعة عن إرسال بعثتين من بعثاتها إلى السوربون، وكان من الجسارة بحيث كتب على الفور إلى رئيس الجامعة يطلب أن توافق الجامعة على أن يكون أحد المبتعثين لدراسة التاريخ، ولم ينس أن يذكر أن هناك شرطين لا ينطبقان عليه وهما الحصول على شهادة الثانوية، كما أنه مكفوف البصر. كان ذلك عام 1913 وبعد أخذ ورد لأن الجامعة كانت ستتكلف نفقات إضافية بإرساله مع مرافق، لم تستطع الأخيرة أن تتملص عندما أعلن أنه سيتقدم هذا العام لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب، ورضخت الجامعة بعد إرجاء الموافقة لحين حصوله على الدكتوراه في آثار شاعر كبير وكفيف مثله هو أبو العلاء المعري، وكان أول طالب يحصل على هذه الدرجة في الجامعة المصرية. وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياته. نال أولًا 20 جنيهًا جائزة له، وهو مبلغ يزيد عن راتب أبيه عن شهر كامل، كما دُعي لمقابلة الخديو عباس لتهنئته، والأهم أنه قبل أن يمر العام وبعد عدة رسائل للجامعة من جانبه تمت الموافقة على سفره لفرنسا، وبينما هو يستعد للسفر بالفعل، أعلنت الجامعة عن استرداد طلابها المبتعثين في أوروبا ووقف إرسال طلاب جدد بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى.

 

فعل أغرب ما يمكن فعله: تقدم للجامعة بطلب ليُقبل مدرسًا بالجامعة وهو في نهاية الأمر حاصل على الدكتوراه. المثير للدهشة أن الجامعة وافقت بل وتقرر له مبلغ خمسة جنيهات كل شهر مكافأة له على عمله، وبدأ بالفعل في إعداد محاضراته، لكنه ما لبث أن تلقى بعد كل ذلك أمرًا بالاستعداد للسفر، إلا أن الجامعة أعلنت أنها لن تتكلف الإنفاق على مرافق له، وكان الحل أن يسافر معه شقيقه ويقتسمان المبلغ الذي قررته الجامعة لطه حسين.

 

تحقق حلم الفتى وبدأ دراسته في مدينة مونبلييه بفرنسا، و لا يمكن تصور حجم الصعوبات التي واجهها. فعلى سبيل المثال كانت الدراسة بالفرنسية التي لم يكن يجيدها وباللاتينية التي لم يكن يعلم عنها شيئًا. بادر بتعلم القراءة بأصابعه وهو ما كان متوافرًا بالفرنسية أما اللاتينية فلم يكن ممكنًا تعلمها بتلك الطريقة.

 

لكن ما عصف به تمامًا هو وقوعه في الحب.. الحب في عيون لا ترى.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز