د. حسام عطا
النقد والحرية وقانون الإجراءات الجنائية
يتحدث النقاد منذ قرون عن أهمية النقد، وعن دوره وهدفه.
بعض من النقاد سعى عمره كله نحو استكمال أدواته، وحقاً يعرف جيداً هؤلاء الذين مارسوا النقد بشكل منتظم سنوات وسنوات، وخاصة هؤلاء الذين انتظموا في الكتابة من شرخ الشباب الباكر إلى أن عبروا العقد السادس من العمر، أن النقد حقاً مهنة تنضج بهدوء وأن العمر والتجربة وتعدد القراءات في مجالات المعرفة عامة وذات الصلة بالفنون خاصة هي مسألة تضيف إلى حساسية الناقد ورهافة رؤيته النقدية.
كما أن التجربة الإنسانية العميقة تضيف للمعرفة النقدية، فهي تساهم في منح الفنان الذاكرة الانفعالية، تمنح الناقد أيضاً فهماً عميقاً من نوع خاص.
ولأن الفنون جميعها ذات صلة بالإنسان وتفاعله في عالمه، وهي بالتعبير عن البشر وموقفهم من الوجود، وهي في جوهرها تسعى كفنون جميلة للتعبير الحر عن الانحياز للحق والخير والجمال.
ولذلك فمعيار النقد وميزانه الأول هو قيم الحق والخير والجمال، وليس فقط الحديث عن البناء الكمي والكيفي للأعمال الإبداعية، فالنقد في القلب بالضرورة من الثقافة الوطنية.
ويبقى النقد بل ونقد النقد أيضاً بمثابة أفعال ثقافية تناقش الفنون، والفنون بالأساس هي إعادة إنتاج الحياة بصور مبتكرة واقعية أو عبثية ساخرة أو باكية مجسدة أو تجريدية، ولذلك يبقى النقد بمثابة رؤية للحياة ذاتها وتعبير عن موقف وجودي بعينه، ولذلك كان النقاد طوال الوقت في طليعة الثقافة الوطنية في كل زمان ومكان.
ومن بقي منهم عابراً للزمن في مصر على سبيل المثال هم هؤلاء الذين مزجوا المعرفة بالتجربة الإنسانية بالموقف الوطني في عالمي الثقافة والفنون.
لا يمكن للنقد إلا أن يكون بالتعبير عن الجماعة الوطنية ولا يمكن أن يصدر عن موقف شخصي أو يظل حبيساً لكتابات للنخبة، الناقد هو بالتعبير عن القيم المعززة للثقافة الوطنية، ولذلك فموقف النقاد حقاً يأتي بالتأكيد مع الحريات العامة والحريات الشخصية.
إنه الموقع البارز في القلب من الثقافة الوطنية، ومن قناعات الجماعة العامة الكبيرة في مصر.
ولذلك فالكتابة النقدية هي جزء عزيز من قلب الكتابة العامة ذات الصلة بالشأن العام.
وهو الأمر الذي لا يجعل من الناقد قاضياً يحكم أحكاماً بعينها، كما لا يجعله أستاذاً يعلم طلاباً في فصل دراسي، وهو بالتأكيد ليس ممارساً لدور حيادي يشبه دور الحكام في المباريات الرياضية.
الناقد بالتأكيد منحاز للحق والخير والجمال، والنقد شأنه شأن كل صنوف الكتابة هو تعبير عن الرأي، ولذلك فالنقد والحرية متلازمة واحدة، لا يمكن لها أن تنفك أبداً، فلا نقد بلا حرية وهو مهمة صعبة في أجواء لا تقبل الرأي الآخر ولذلك لا تتقبل النقد، كما أنه لا حرية بلا نقد بالضرورة.
والمجتمعات التي لا تتقبل النقد الجاد الموضوعي هي مجتمعات في خطر.
النقد إذن حماية للسلطة والمجتمع معاً، وذلك لأنه تحليل وتفسير وتقييم.
ولذلك فيحق لي كممارس لمهنة النقد أن أشعر بالسعادة عندما أقرأ عن خبر إعادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي لقانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب، وعدم توقيعه على القانون، والنظر بكل تقدير لما تم توجيهه من نقد لهذا المشروع من أفراد وكيانات كبرى في مصر، وأبرزها نقابة الصحفيين ونادي القضاة.
ومجلس النواب الذي هو بالنيابة عن الشعب المصري أصبح الآن مطالباً، حقاً، بالنظر في المواد التي لاقت نقداً واعتراضاً واضحاً.
فحقاً تأتي الحريات العامة والحريات الشخصية في قمة الشروط الضرورية لنجاح وتقدم المجتمعات.
وحقاً يبقى عودة المشروع مرة أخرى لمجلس النواب هو تعبير عن حيوية مصر، التي عرفت حقاً النقد الموضوعي وحمت التعدد والحريات العامة والخاصة.
ولأن ممارسة الكتابة والنقد هي علامة على قبول الآخر وعلى عافية الجماعة المصرية، فحقاً يجب أن نقف في جانب إعادة النظر في الأمور التي تبدو غامضة أو ملتبسة بشأن الحريات العامة والشخصية في مشروع القانون، لأنها جوهر عمل الفنون التعبيرية وجوهر عمل النقد، وفي هذا ننتظر الكثير من مجلس النواب، كما ننتظر حواراً مجتمعياً حضارياً موسعاً، فهي فرصة كبرى لتجديد حيوية وجودة الحياة في مصر.
















