عاجل
السبت 13 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
مفهوم الود ودلالاته الأخلاقية في واقعنا المصري المعاصر

مفهوم الود ودلالاته الأخلاقية في واقعنا المصري المعاصر

نبدأ حديثنا بقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) سورة مريم آية 96. وكذلك نذكر بقوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم آية 21، فلولا هذه المودة التي هي أرقى من المحبة ما كان تحقق السكن، والسكن هنا السكينة والطمأنينة، فالذي يكسب القلب الراحة والهدوء والاستقرار هي المودة. هذا ما يجول بخاطري وخلدي حول كلمة المودة.



لكن هيا لنتعرف على ما قاله أهل اللغة عن الوُد بضم الواو، والود بكسرها، ثم بعد ذلك نسقط ذلك على واقعنا المصري المعيش، لنتعرف على، هل هذه القيم لا تزال موجودة بيننا أم تغيرت مع تغير الزمان والمكان وصارت نسبية من شخص إلى آخر، ومن مكان إلى مكان ومن حي إلى حي، حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. أم لا تزال على ثباتها لم تتأثر ولم تتغير؟!

تلك مشكلة عويصة ناقشتها فلسفة الأخلاق، القيم الخلقية بين النسبية والإطلاق، وهذا موضوع طالما تناولته وتحدثت عنه كثيرا، واختلف معي كثيرون واختلفت معهم، لكني لا زلت ثابتا على موقفي فالقيم الخلقية مطلقة لا يمكن أن تكون نسبية لماذا، لأن الخيرية صفة فطرية في كل بنى الإنسان، فالإنسان هو هو مهما اختلف مكان وجوده، ومهما تعاقبت عليه الأزمان، فثمة جانب مشترك بين جميع الناس، هذا الجانب هو الفطرة الخيرة التي خلق بها وجبل عليها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) سورة الروم آية 30.

 فمهما أثرت العوامل البيئية، وحاولت أن تغير هذه الفطرة السليمة إلا إنه حتمًا سيعاود أدراجه ويغلب الجانب الخير بداخله، فإذا ما خير الإنسان بين الفضيلة وبين الرذيلة فأيهما سيختار، الضرورة المنطقية تقول حتما سيسلك طريق الخير الذي هو طريق الأخيار والأنبياء والمصلحون لماذا؟!، لأن الخير سيحقق للإنسان السعادة المرجوة التي هي أرقى من اللذة الحسية.

 وهذا ما تناولته كثير من الفلسفات الأخلاقية التي دوما ما كانت تسعى إلى تحقيق السعادة، مثل فلسفة سقراط الأخلاقية، وفلسفة أفلاطون، وأرسطو، والفارابي وأحمد مسكويه والغزالي والماوردي، وأوغسطين وتوما الأكويني، وكانط ونيتشه وغيرهم كل حسب توجهه الفكري. لكن جميعهم اتفقوا على أن الغاية القصوى من دراسة الأخلاق، هي تحقيق السعادة للإنسان.

نأتي إلى ما ذكره أهل اللغة.. كلمة "ودًا" تعني المحبة والتمني، وتستخدم لوصف المشاعر الإيجابية كالحب والمودة بين الناس، أو كاسم لصنم كان يُعبد في قديم الزمان..  (وقالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) سورة نوح الآية 23 فالود هنا رجل من قوم صالح كان يتسم بالصلاح فألهوه وصنعوا له تمثالا وعبدوه مع مرور الزمانه.

أما الوِد بكسر الواو: وِدّ بكسر الواو تعني الصديق أو المحب. وهي كلمة عربية تعبر عن علاقة المحبة والإخاء بين الناس، وهي عكس الضم (الوُدّ) الذي يعني المحبة أو التمني.  ولنضرب على ذلك مثالا. إن أحمد كان وِدًّا لعمر تعني أن أحمد كان صديقًا لعمر، أي كان صديقا له.

هيا نطبق هذا الود، وهذه المودة على واقعنا المصري المعيش. في مصرنا الحبيبة قد نختلف مع بعضنا البعض خلافا فكريا وسياسيا وقد نختلف حتى دينيا، لكن يبقى أمر واحد قاسم مشترك بيننا جميعا، ألا وهو الود والمحبة، وهذا ما يفارق به المصري وتكوينه وسيكلوجيته باقي شعوب العالم، وقد يتهمني البعض بالمبالغة في هذا الموضوع لأنني مصري، أقول لا وإنما من خلال معايشتي للمصريين وتعاملي معهم ومعايشة مواقف كثيرة يعج بها الشارع المصري وتمتلأ بها البيوت المصرية، بنيت وكونت وجهة نظري بمنتهى الموضوعية.

وسأضرب أمثلة على ذلك، انظروا حال المصريين في رمضان، لا أقول المصريين المسلمين فقط، وإنما أطلقت اللفظ وأعي ما أقول، المصريون، المجتمع المصري بكل أطيافه، المسلم يأكل بجوار أخيه القبطي على مائدة واحدة، إنها حياة المودة، في رمضان وغير رمضان، فالمودة والود هو الذي يجعلنا نفعل ذلك.

 أيضا شاهدوا إذا حدث فرح أو حتى مكروه عند إحدي الأسر حتى وإن كانت هذه الأسرة على خلاف مع جيرانها، إلا أن المودة والجيرة والوازع الداخلي والفطرة الخيرة، كل هذه القيم كفيلة أن يذوب معها أي خلاف وشقاق، فترى الكل يعمل مع الكل، والجميع يعانق بعضه البعض.

حتى في تعاطف المصريين ليس تعاطفا فقط، وإنما مصابهم مصابنا وهمهم همنا، ونصرهم نصرنا - مع القضية الفلسطينية، ومع أهل غزة، وبكاء الكبار والصغار، على الأطفال الذين اغتالت براءتهم يد الخسة والنذالة فقتلتهم الآلة العسكرية العجماء أو قتلهم الجوع أو البرد القارس، فراح الجميع يمد يد العون ويساهم قدر استطاعته في رفع هذه المعاناة.

شاهدنا من يلقي بالفاكهة على سيارات المعونات الإنسانية المتجهة إلى غزة، رأينا من يضع الحبوب في زجاجات ويلقيها في المياه لعلها تصل إلى سواحل غزة، رأينا المؤسسات الخيرية، والدينية وبيت زكاة المسلمين، الكل شمر سواعد الجد لإغاثة الملهوفين في غزة وإنقاذهم من الهلاك جوعا. فما الدافع الذي دفع الناس إلى ذلك، إنها المودة والمحبة التي وضعها الله تعالى في قلوب المصريين لأهل غزة. فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

لكن أليست كل هذه الأمثلة أعمال صالحة تقربنا إلى الله تعالى، وإذا ما فعلناها، فما نتيجة ذلك، النتيجة أن يجعل الله لنا ودا في الدنيا ومحبة، ليس هذا وحسب بل وسيهبنا ود بكسر الواو صديق حميم وخل خليل نشد عضدنا به. نعم إنها المودة والرحمة التي بها تحيا القلوب وتتطهر الأبدان.

 

أستاذ الفلسفة بآداب حلوان  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز