

مودي حكيم
بوبر ومدور من المؤثرين في حياة مجدي يعقوب
المؤثرون والمتأثرون "4"
لكل عظيم مؤثر لعب دورًا في حياة العظماء ممن أضافوا للبشرية ولم يأخذوا منها، ومساعدتهم من أجل العلم والتعلم والتفوق والعدالة والإنسانية، والارتقاء بأرواحهم للسمو والعطاء والمشاركة من أجل مجتمع أفضل.
في حياة البروفيسور مجدي يعقوب عرضنا اثنين منهم، إمحوتب إله الطب عند المصريين، والمؤثر الثاني هاينريش هيرمان روبرت كوخ، أشهر فلاسفة العلم الذي أدت إنجازاته إلى تغيير النظرة العلميّة للأمراض.
المؤثر الثالث للدكتور مجدي يعقوب، كارل بوبر أحد أشهر فلاسفة العلم على الإطلاق، هدفه الأساسي للعلم هو أن يقترب من الصدق، فالعلم يستطيع أن يفعل ذلك، كما أنه فيلسوف اجتماعي وسياسي ذو مكانة متميزة، وقد عرف بكونه ناقداً عقلانياً عرف بتنظيره في الشكوكية، كما أنه أحد المدافعين البارزين عن مبدأ “المجتمع المفتوح”، أما عن حياته التي بدأها في فيينا التي يعتبرها الكثيرون مركزاً للحضارة الغربية في وقتها.. فأبواه من ذوي الأصول اليهودية كانا على ثقافة واطلاع كبيرين، فقد شاركهما ذلك الاطلاع.
والده المحامي كان مهتماً بالفلسفة وكان كثيراً ما يشارك ابنه في الآراء حول القضايا السياسية والاجتماعية، أما والدته فقد شاركته ولعها بالموسيقى حتى إنه اختار مجال دراسته الثانية للدكتوراه بالفلسفة حول تاريخ الموسيقى.
بدأ مسيرته الفكرية يسارياً، حيث كان ينتمي لتجمع طلابي اشتراكي عام ١٩١٩ وصار ماركسياً لكنه سرعان ما لاحظ أموراً سلبية كثيرة، فتخلى عن هذا الانتماء، ثم صار مولعاً بالتحليل النفسي وأدبيات فرويد وادلر (حتى إنه خدم تطوعيا في إحدى عيادات التحليل النفسي)، غير أن استماعه لمحاضرة ألقاها أينشتاين حول النسبية كان بداية مرحلة مختلفة في حياته.. وجد بوبر أن نظرية أينشتاين تستند إلى أمور قابلة للاختبار فعاد وأخضع أدبيات مؤسسي التحليل النفسي لمبادئه الجديدة ووجدها تفتقر إلى التأكيد.
ثم شرع بوبر بدراسة الدكتوراه في علم النفس التجريبي تحت إشراف كارل بولر (Karl Buhler) في جامعة فيينا والذي يعد مع أوتو كولبه (Otto Kulpe) موسساً لعلم النفس التجريبي.
تزوج بوبر وعاش في نيوزيلندا طيلة الحرب العالمية الثانية، وكتب كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه". وصار بوبر أستاذاً للمنطق والمنهج العلمي في جامعة لندن عام ١٩٤٩، وهناك تنامت سمعته كفيلسوف علمي لامع وكتب كتابه منطق الكشف العلمي في عام ١٩٥٩، استمر بوبر كاتباً ناشطاً حتى وفاته في عام ١٩٩٤.
ومن أعظم المؤثرين أيضاً في حياة يعقوب، عالم من بلاد الأرز، واحد من آباء الحضارة، شهدت البشريّة زرع حبوبه، وحصدت محصوله الإنسانية جمعاء.
إنها سيرة العالِم بيتر مدوّر، وهو ابن المغامر المهاجر نقولا إغناطيوس مدوّر، الذي حزم أمّره وصرّته ممتطياً البحر، وكانت محطّته الأولى بريطانيا العظمى.
لم يكن يدرك مدى المغامرة ونهايتها، حين صعد الباخرة، بعد أن دوّنت عساكر السلطنة العثمانية اسمه على لائحة المغادرين من مرفأ بيروت. لكن كيف استطاع تأمين عيشه وسكنه وهو لا يتقن الإنجليزية، ولا يعرف أحدًا يمدّ له يد العون والمساعدة؟".
وكان الجواب مقتضبًا في سطور الكتاب على لسان ابنه العالم بيتر نفسه: "سافر والدي مثل الكثير من الفينيقيين، وسافر بحثًا عن الثروة.. كان الفنيقيون عظماء، وأبي كان من المسافرين".
توجّه نقولا مع زوجته البريطانية إلى البرازيل بصفة وكيل "لشركة بريطانية تصنع المنتجات الخاصّة بالأسنان". بعد أشهر من اندلاع الحرب الكونية الأولى 28/2/1915 وُلد لنيقولاس وزوجته موريال صبيّ سمّياه بيتر نسبة إلى المدينة التي ولد فيها في البرازيل (بيتروبوليس).
نبغ بيتر مدوّر منذ دراسته الابتدائية فالثانوية، وكانت بحوثه في نموّ الأنسجة أولى بشائر نجاحه. حصل على منحة دراسية بدعم مؤسسة (سيينو ديمي شب). عند بلوغه عامه الثالث والعشرين، مُنح جائزة (إدوار شايمان) للبحوث عن بحثه في تطوّر النموّ الجيني، وغيرها من الأبحاث التي وضعت الإنسانية على الطريق الصحيح لعلم زراعة الأعضاء.
درس مدور في مدرسة مارلبورو الداخلية، وهناك اكتشف شغفه بعلم الأحياء، ولهذا السبب درس علم الحيوان في كلية ماجدالين في أكسفورد، وأنهى دراسته الجامعية عام 1953 ليصبح بعدها باحثًا ومدرسًا مساعدًا في الكلية.
عمل مدور بعدها في كلية علم الأمراض في جامعة أكسفورد، وذلك تحت إشراف العالم الأسترالي هوارد فلوري البارز في مجال الأدوية والأمراض، وخلال عمله في الكلية زاد اهتمامه بالأبحاث البيولوجية. اهتم مدور في دراساته على علم المناعة، فقد ركز على رفض الجسم للأنسجة أو الأعضاء الداخلية المزروعة فيه، وقد حصل على جائزة نوبل في الطب مناصفة مع العالم الأسترالي السير فرانك بورنت عام 1960 لاكتشافهما التحمل المناعي المكتسب.
وهنا لا بد أن أتوقف عن الحكي…. فليس هناك أمهر من الشاعر والرسام والنحات والصحفي والإعلامي والناشر جوزيف أبي ضاهر في الحكي عن سيرة العالم بيتر مدور عندما كتب مقالاً تحت عنوان "البروفيسور الصبي"، وهنا لا بد أن انسحب لألتقط القليل مما عبر عنه: "…. كما أحبّ الحياة شغفًا، عشق بيتر البحوث العلميّة، مستغلًا كل دقيقة من وقته حين قال: "الوقت هو المادّة المصنوعة منها الحياة". لقّبه العالم البريطاني (صولي زاكرمان) بلقب "البروفيسور الصبيّ" لصغر سنه مقابل إنجازاته، حيث كان في الاثنين والثلاثين من عمره عندما اكتشف "المضادات المناعية" والتي تؤدي إلى "رفض الجسم لزراعة الأنسجة والأعضاء الغريبة"، كما اكتشف عدّة عقاقير لكبح هذه المناعة.
حصل على لقب (سير) تتويجًا لجهوده وبحوثه المتطورة التي شغلت المعاهد الكبرى والجامعات في بريطانيا، "منحته ملكة إنجلترا إليزابيث الثانية أحد أرفع الأوسمة، تقديرًا لبحوثه ومنجزاته". وتابع مسيرته في طريق العلم فارضًا عبقريته ببحوث لا تنتهي.
يقول الكاتب: "بعد شهر الحصاد تُجمع الغلال، يسقط الزؤان، ويبارك من كانت مواسمه وفيرة، عامرة بالخير". فقد تُوّج بيتر مدوّر، بإحدى أشهر جوائز العالم، ألا وهي جائزة (نوبل) مع العالم الأوسترالي فرانك بورنت، لاكتشافهما "التّحمل المناعي المكتسب"، وكان ذلك في شهر تشرين الثاني سنة 1960.
كما نال بيتر مدوّر قبل وبعد (نوبل) جوائز علميّة وتقديرية عدة من أبرزها جائزة: "كالينغا لتبسيط العلوم" عام 1985 وهي جائزة تميّز دولية أنشأتها منظمة الأونيسكو عام 1925.
لم ينسَ العالم بيتر مدوّر، شروق الشمس من جباه أجداده العالية، فقد بدّد هذا الشروق أرقًا من حنين معلّقًا في خزائن العمر: "... وعاد الفينيق إلى موطنه، ليس من رمادٍ بل من توّهج نجاح عالمي".
عنْونت الصحف اللبنانية حدث قدوم السير بيتر مدوّر إلى لبنان ومنها الجريدة الأسبوعية في عددها الرابع والأربعين تاريخ 20/8/1961: "العالم اللبناني الفائز بجائزة نوبل يتعرّف هذا الأسبوع إلى وطنه الأول... ولكنه لن يحمل وسام الاستحقاق اللبناني".
سبب عدم منحه هذا الوسام كان تحذيرًا من دولة صاحبة الجلالة جاء فيه: "رفضت الحكومة البريطانية، أن تمنح الحكومة اللبنانية وسامًا للدكتور بيتر مدوّر لأنه من كبار العلماء الذين يجب أن يظلّوا على مرتبتهم العلمية الرفيعة... كما يُحظر على أي مواطن بريطاني أن يتلقى وسامًا من أي دولة ما لم يكن أدّى لها خدمات خاصّة تستحق التقدير".
جال العالم الشهير في أرجاء الوطن (بعلبك، برمانا) وغيرها من المعالم السياحية، أقيمت له مآدب الملوك على ضفاف نهر البردوني، زار بفخر كبار رجالات الوطن (فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيسي مجلس الوزراء والنواب)...".
عندما نرحل طوعًا من منازلنا، لا نحمل معنا مفاتيح بيوتنا القديمة. حاول بيتر مدوّر استباق الزمن الهارب من على عتبة منزل والده في غادير (حيّ مار فوقا)، فخيّم ثقل اللحظات القاسي على المكان، ولم يجد ملامح لحياة أو كيان، بل وجد خربة دون باب.
وقد جاء على لسان جوزف أبي ضاهر عن وصفه المشهد: "حين يؤخذ عمود البيت منه يسقط السقف، فالمداميك، حجرًا حجرًا، لا يعود من حاجة إلى مفتاح تحتفظ به"، وليس لدينا علم إذا بقيت هذه الخربة أم رمِّمت أم شُيّد مكانها ناطحة سحاب.
أمسك الكاتب بالوقت، وجعل العناق الطويل، الذي لم يصل إلى عتبة منزل جدّ العالم بيتر، شوكة في الحلق وغصّة في الروح، لكنه التقط الحقيقة التي تداوت بها الشعوب، وسكبها في حبر الكتاب الذي استقينا منه المعلومات الوافرة الواردة في هذه المطالعة المتواضعة.
بجهد جهيد ومثابرة وإتقان، جمع جوزيف أبي ضاهر، تفاصيل حياة، وإنجازات وأوسمة وجوائز العالم النجم بيتر مدوّر من مراجع عديدة، أهمها جريدة الأسبوعية، النهار، البيرق، وصدى الأرز وغيرها من تدوينات لشارل مالك، محمد شيّا، غسّان غصن، كمال مدوّر ومفكرة جورج سكاف. نهلنا عصير قلمه الراقي رحيق مجد فوق الورق، سكنت فؤادنا سلاسة تعبيره عن أزمنة العزّ والعلم والإبداع التي عاشها كبارنا، وعبروا عبر إنجازاتهم إلى مآسي الإنسانية، مبلسمين الجراح، محولين المجتمعات إلى أماكن أفضل وأرقى.
إذا كان المرحوم الصحفي بطرس العنداري، صاحب جريدة النهار الأسترالية، قد كتب سيرة العالم فيليب سالم، وأبهرنا بوهج اغترابه، فإنّ جوزيف أبي ضاهر كتب سيرة العالم بيتر مدوّر. نحن بانتظار من يكتب سيرة عظماء من بلادنا، مثل "فتى العلم الكهربائي" العالم حسن الصبّاح. والعالم رمال حسن رمال، الذي أطلق عليه لقب أصغر عالم في جيله، بحصوله على الميدالية البرونزية، التي يمنحها سنويًا المركز الوطني للبحوث في فرنسا، لأفضل الباحثين وذلك عام 1984.
والبروفيسور مايكل دبغي، الذي ابتكر وهو يبلغ من العمر 23 عامًا، المضخّة الدوّارة لتصبح جزءًا أساسيًا من آلة القلب_ الرئة، ومنطلقًا لعصر جراحة القلب المفتوح. وأستاذ الرياضيات اللبناني، من أصل أرمني، مانوك مانوكيان الذي عمل على مشروع الصواريخ، الذي أبصر النور في جامعة هايغازيان في بيروت، وقد صنع صواريخ يصل مداها إلى 600 كلم، وبعد التجربة، عام 1961 وقع أحدها في البحر، على مقربة من جزيرة قبرص، مما أدى إلى احتجاج بريطانيا أمام مجلس الأمن لحجّة حماية أمن إسرائيل. والبروفيسور رئيف ملكي الذي درس العنبر اللبناني دراسة وافية وأكّد مع البروفيسور الأميركي جورج بوينز وجود أقدم نظام إيكولوجي للحشرات في الصمغ المتحجر في لبنان. وغيرهم من العلماء اللبنانيين، ليصح ما جاء على لسان جوزيف أبي ضاهر: "علّنا نساهم، بتواضع، في مسح بعض الرماد الأسود الذي تساقط على وجه بلادنا، ممّن ظنوا أنفسهم وجهها".
وسنكمل الحكي عن المؤثرين والمتأثرين..