

د. حسام عطا
عن يعقوب الشاروني.. صورة مصر والاستثمار في البشر
إن اختيار الأستاذ الكاتب الكبير يعقوب الشاروني علماً تتزين به الدورة الأولى لمهرجان الطفل المسرحي الذي تتنافس فيه فرق مسرح الطفل ونواديه المستحدثة على مسرح قصر ثقافة روض الفرج، والذي يبدأ في العشرين من أغسطس الجاري 2025، هو اختيار مبهج يستعيد المعنى والدور وجوهر العمل الثقافي المصري.
والمهرجان الذي يبدو محاولة لإلقاء الضوء على التفكير الإبداعي لأجيال عديدة في مسرح الطفل هو فعل ثقافي مهم رغم أنه يأتي في زحام من المهرجانات المتلاحقة.
إنه إذن اليوم العشرين من أغسطس 2025 الذي نرى فيه وجه الأستاذ يعقوب الشاروني المضيء كشمس مصر الذهب، فعندما أرى هذا الوجه حقاً أستعيد الشعور بالمعنى، ذلك أن يعقوب الشاروني كان حقاً راهباً منقطعاً في اتصال وزهد للعمل في مجال ثقافة الطفل المصري.
كان الشاروني الذي غادر مقعد القضاء كي يعمل مديراً لمديرية ثقافة بني سويف، قد كتب المسرح للكبار وكتب الرواية والقصة، إلا أنه قرر مبكراً التركيز في الكتابة للأطفال حصرياً.
كان يعقوب الشاروني قد اتخذها رسالة سامية يكافح بها ضد الهزيمة بعد 1967، وضد الخرافة التي كان يراها تسيطر على صناعة خيال عالم الأطفال عبر حكايات وأساطير تحكى.
كان يرى أن التأسيس القيمي المصري يجب أن يكون مبكراً في مرحلة الطفولة كي يتم بناء الإنسان.
ولذلك وسواء كان الشاروني في مقعد المسؤولية في وزارة الثقافة أو خارج ذلك المقعد الرسمي فقد كان قادراً على العطاء المنتظم المستمر.
وأذكر وهو يغادر موقعه كرئيس للمركز القومي لثقافة الطفل أنه كان مبتهجاً جداً لأنه سيتفرغ للعمل من أجل الأطفال.
كان الشاروني لديه مهمتان لا يتركهما أبداً: الأولى هي تعليم الإخصائيين الثقافيين الجدد ثقافة الطفل وكيفية العمل فيها، وهي مهمة كان يسافر من أجلها إلى أقصى الجنوب وإلى كل مكان في مصر.
والمهمة الثانية هي الاحتفاء بالهوامش البعيدة في هذا الاختصاص.
ولم يكن أحد يلاحظ تلك الهوامش فقد كانت بعيدة عن النور، مثل العمل في مدرسة ما أو إدارة تعليمية بعينها في فنون الطفل، فقد كان يذهب ويمنح الوقت والجهد والمعرفة.
وفي هذا فقد زرع كل يوم زرعاً أخضر ازدهر ولا يزال يثمر في كل بقعة في مصر حتى الآن.
كانت فرحته الخاصة عندما يعثر على موهوب قادم للعمل في فنون وثقافة الطفل ليست مجرد بهجة فقط، بل كان يتحول لهذا الموهوب إلى مدرسة متكاملة يقرأ له ويناقش ويفتح بيته ويفتح آفاق مكتبته الخاصة العامرة في منيل الروضة، وفيها قرأت وأجيال من بعدي أهم المراجع والكتب الأساسية في عالم ثقافة الطفل.
إنتاجه الإبداعي في قصص وروايات ومسرح الطفل ورصيده في باب الطفل ما لا يقل عن ربع قرن من الزمان في جريدة الأهرام، وعمله كأستاذ زائر بالجماعات المصرية والرسائل العلمية التي شارك في الإشراف عليها ومناقشتها كان إنجازه الشخصي الذي لم يأخذه أبداً من فكرة العمل الوطني المخلص اليومي المتصل في زراعة الأفكار وتعليم المختصين وجذب ورعاية المواهب القادمة في هذا الاختصاص.
من تلاميذ الشاروني الذين يقفون أمامه في محبة الأستاذ الفنانة الكبيرة فاطمة المعدول المبدعة والقيادة الثقافية الكبيرة، وشخصي المتواضع وأجيال عديدة، أسماء وأسماء تنافس ابنته د. هالة الشاروني المختصة النادرة في ثقافة الأطفال على محبة الأستاذ.
حقاً شكر كبير للهيئة العامة لقصور الثقافة ولوزارة الثقافة المصرية على إطلاق اسم الأستاذ
يعقوب الشاروني على الدورة الأولى لمهرجان مسرح الأطفال المصري الذي تشرق فيه علينا من كل مكان في مصر إبداعات تستحق التوثيق والتسجيل والمتابعة وإعادة الإطلاق على المنصات الرقمية والشاشات المتعددة بعيداً عن حسابات المكاسب المالية الكبيرة وأسماء النجوم وما إلى ذلك من قواعد صارمة من أجل نشر النور واستعادة الوجه المشرق والأمل في الفن المصري المعاصر.
ورغم ذلك يبقى درس الشاروني الذي يجب أن تتأمله المؤسسات الثقافية والتعليمية في مصر هو ذلك الدرس الذي عشته معه، ألا وهو العمل اليومي المنتظم في كل الاتجاهات والاستثمار في البشر بعيداً عن الفعاليات التي تضيء نوراً مشتعلاً ثم تذهب إلى الصمت والظلام.