عاجل
الإثنين 25 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي

«يوسف» الفارس الصامت الذي جال في جناح الأزهر بمعرض الإسكندرية للكتاب.. بعينه وقدمه يحاور العالم

يوسف الفارس الصامت الذي جال في جناح الأزهر بمعرض الإسكندرية للكتاب.. بعينه وقدمه يحاور العالم
يوسف الفارس الصامت الذي جال في جناح الأزهر بمعرض الإسكندرية للكتاب.. بعينه وقدمه يحاور العالم

في جناح الأزهر بمعرض مكتبة الإسكندرية للكتاب، وبين أركانه المتنوعة، لفت الأنظار فتى صغيرٌ على كرسي متحرك، بعينين لامعتين، ونظرات لا تُخفي شغفًا ولا دهشة، كان ذلك الفتى هو يوسف محمد البنا، الذي بدأ خطواته الأولى في الحياة وقد حرمه الشلل الدماغي من نعمة النطق والحركة، ورغم ما حُرم منه جسده، فإن عقله ظل حاضرًا، وروحه متقدة بالأمل، يسكنه شغفٌ بالمعرفة، ويقوده حلم لا يلين.



 

يوسف، لا يتحدث بصوت، لكنه يُجيد لغة العين، ولوح ذكي يخط عليه بكعب قدمه، وروح تُحسن الإصغاء والحوار. يُحب القراءة ويعشق الشطرنج، ويحلم أن يكون له شأن في بطولاته، وأن يُعرف بعقله لا بإعاقته.

وحين عبّر عن رغبته في زيارة جناح الأزهر، لم تكن مجرد أمنية عابرة، بل نداء قلبٍ يطلب النور، وفارسٍ يبحث عن سلاحه في العلم، وما كان له أن يمضي في رحلته لولا «أم عظيمة» سلكت كل السبل، وآمنت بابنها حين تردّد العالم من حوله، فأعطته من قلبها ما جعله يتحرك، ويحاور، ويعيش كما يليق بالأبطال.

دخل يوسف الجناح على صهوة كرسيه المتحرك، لكنه لم يكن مقيدًا به، بل كان ممتطيًا له كفارس يصول ويجول، متحديًا ما حسبه البعض عجزًا، نظراته سبقت خطواته، ودهشته كانت أقرب إلى دهشة مكتشف يرى العالم للمرة الأولى كان يتنقل بين الأركان، يسأل بعينيه، ويجيب بكعب قدمه على جهازه اللوحي الآي باد، وترافقه أمه كظله، تفهمه قبل أن يُشير، وتنقل صوته للعالم كما لو كانت صدى قلبه.

في ركن اللوحات الفنية، شدّته أعمال طلاب الأزهر التي تفيض ألوانًا ومعنى وقف طويلًا أمامها، وعيناه تلمعان بدهشة فيلسوف رأى إبداعًا لا تحدّه الإمكانات، كأنها تحدثه عن نفسه دون أن تنطق، وكأنه يقرأ فيها صفحات من حكاية صمته.

ثم دخل متحف المخطوطات العتيقة، وانجذب إلى تلك الأوراق الصفراء التي عاشت قرون، نظر إلى المخطوطات نظرة مَن يقدّر الكلمة ويعرف وزنها، ووجّه بعينيه سؤالًا عن أقدمها، فنقلته أمه للقائمين على الركن، لم يكن مجرد سؤال، بل كان توقًا لمعرفة تمتد جذورها في الزمن.

بعدها، طلب دخول ركن الفتوى، وهناك عبّر من خلال والدته عن تساؤل وجودي عميق: «ما هو الإسلام؟ وما الفرق بينه وبين الشرائع الأخرى؟» سؤال فاجأ الحاضرين بعمقه، وأدهشهم بحكمة شاب لم تمنعه الإعاقة من أن يُفكر، ويفهم، ويبحث عن المعنى الحقيقي للدين، لا مظهره ولا شكله الخارجي، لم يكن مجرد سؤال ديني، بل كان تعبيرًا عن عقل ناضج متأمل.

واصل يوسف جولته بين أرفف الكتب في منفذ البيع، حيث توقف أمام العناوين التي تتحدث عن الإنسان والإنسانية كتب لأمه أن هذه الكتب «تُخاطب العقل والقلب معًا» وكأنه يرى فيها مرآة لروحه، أو وطنًا للأفكار التي طالما راودته في صمته الطويل، لم تكن الكتب مجرد أوراق في عينيه، بل كانت أبوابًا مفتوحة نحو حياة أكبر مما يتصورها الآخرون عنه.

وقبل أن يودّع الجناح، توجّه يوسف بشغف إلى ركن الخط العربي، حيث أقيمت ورشة عمل مصغرة للفنان الأزهري إسماعيل عبده راقب الحروف وهي تنساب على الورق، وطلب أن يُكتب اسمه، فلبّى الفنان طلبه وعندما رأى يوسف اسمه مرسومًا بتلك الزخارف الفنية، تلألأت عيناه بفرحة طفل كتب التاريخ اسمه أخيرًا، لا بصوته، بل بجمال حروفه.

لم تكن هذه الجولة في جناح الأزهر مجرد نزهة، بل كانت شهادة حية على أن يوسف لا يعيش على هامش الحياة، بل في صميمها أثبت أن الجسد ليس وحده من يصنع البطولات، بل القلب والعقل والإرادة كتب لأمه بعد الزيارة أنه «يريد العودة مجددًا، لأن هناك شعر بأنه ليس زائرًا، بل جزء من المكان».

وراء هذا الفارس الشجاع، تقف أمه بكل ما في الأمومة من تضحية وإيمان لم تتركه للحزن، بل قادته إلى النور علمته كيف يحيا بالكلمة، وكيف يجعل للحرف روحًا، وللنظرة معنى كانت وما زالت صوته الذي لا يخذله، وإقدامه الذي لا يتراجع، ومفتاحه لعالم لم يكن يومًا سهلًا، لكنه صار ممكنًا بفضلها، وإلى جانب أمه، يقف معلموه الذين آمنوا بذكائه، ورأوا فيه طالبًا يستحق أن يُستثمر فيه فقدموا له المعرفة بحب واحترام دون شفقة، وفتحوا له نوافذ العلم كما يُفتح الباب لأمل كبير.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز