

د. رانيا يحيي
شمس أشرقت ولن تغيب
إن المثقفين والمفكرين والمبدعين هم عقول الأمة، وحراس حضارتها، وصناع حاضرها ومستقبلها، وفى الأحداث السياسية التي تمر بها مجتمعاتهم يكون لهم الدور الرئيس فى كتابة هذا التاريخ، إما بمشاركتهم الحية، أو من خلال الإبداعات التي يقدمونها متأثرين بهذه الظروف التي يشكلون جزءًا واقعيًا منها، فيتأثرون بها ويؤرخون لها. ومن ضمن تلك الأحداث المصيرية التي عشناها وعايشناها ثورة الثلاثين من يونيو، ثورة تحرير وطن اختطف، لكن سريعًا ما عاد بيد أبنائه، وبفضل شعب عانى آثار دعاة الدين، والمتسترين باسمه، لكن وعى الشعب المصري الذي راهنا عليه وما زلنا، أثبت أن ثقافة وإدراك جموع المصريين أعمق من الصورة الافتراضية فى أذهاننا، فخرجت هذه الانطلاقة لتعيد تشكيل مصر الجديدة، وتصدر صورة مشرفة فى الخارج تؤكد القناعة التي وصلنا إليها جميعًا كشعب أراد أن يقرر مصيره.
ولعبت النخبة المثقفة -من الكتاب، المفكرين، الأكاديميين، الفنانين، الإعلاميين، والشخصيات العامة الذين يمتلكون تأثيرًا فكريًا أو إعلاميًا أو فنيًا، ويشاركون فى تشكيل الرأى العام- دورًا بارزًا من قبل إعلان الشرارة الأولى فى 30 يونيو، حيث التمهيد الفكرى والسياسى للثورة من قبل المثقفين الذين أبدوا رفضًا تامًا لحكم جماعة الإخوان المسلمين مبكرًا، ورأوا أنه يمثل تهديدًا لهوية الدولة المدنية، كما كان ظهور عدد من الشخصيات العامة من النخبة ولكتاباتهم دورها فى رصد الآثار السلبية الناجمة عن مخاطر أخونة الدولة وتقييد الحريات بها، ورجعية الأفكار والمؤسسات التي سعوا لتهميشها وإنكار قوة تأثيرها، من خلال الظهور فى بعض البرامج التليفزيونية ووسائل الإعلام، بجانب الكتب والمقالات التي تشير إلى القلق الوافد لعقولهم النابهة، ولا يمكن أن ننكر دعم الحشد والتعبئة من أعداد المثقفين والمبدعين والمفكرين وتوقيعهم على استمارات دعوات حركة “تمرد” التي كانت نواة الحراك الشعبى، وأثر تلك الأسماء على إقناع الرأى العام، وفرض قوة شعبية بل مصداقية على هذا الحراك الجماهيرى الرافض للحكم الدينى، ومع التحرك للشارع شاركت رموز مصرية فى إقناع وتطمين الجموع من خلال المنصات فى الميادين.
وعن دور تلك النخبة فى ثورة 30 يونيو 2013 فقد كان محوريًا وحاسمًا، لأنها أوعزت بالحراك الفكرى والسياسى، قبل وأثناء الثورة، ولم ينته دورها عند هذا الحد، وإنما صياغة ملامح الخطاب السياسى والثقافى بعد الثورة، والتأكيد على مفاهيم المواطنة والدولة المدنية، وإعادة الخطاب الدينى إلى وسطيته المعتدلة، ولا يمكن أن ننسى تلك الذكريات وهذه الأيام التي تألمنا فيها وخضنا معاناة شرسة نحن جميعًا كمصريين فى مواجهة الفكر المتطرف، وتضحيات الجيش والشرطة التي أسفرت عن شهداء فقدوا حياتهم بإيمان لقضية الوطن حتى نحيا فى أمن وأمان.
وفى غضون التظاهرات الحاشدة فى جميع الميادين من أقصاها إلى أقصاها فقد ظهرت أعداد من الأغنيات الوطنية، التي سيطرت على إبداعات الفنانين كتابة ولحنًا وأداءً، فى الأحداث التاريخية الكبرى، والظروف الجارية، ولأن تلك الثورة كانت علامة انتصار فارقة فى وعى المجتمع، فتوحد الجميع حول رجل واحد، وأخذت الأغنيات تتردد منها “تسلم الأيادى”، “بشرة خير”، “إنتو مين؟” بإيقاعاتها الحيوية النشطة، التي تؤكد بعث الحياة والروح فى الجسد، بعد أن أنهكته محاولات طمس الهوية، وهو ما يعكس تأثير الفن والمثقفين لتوثيق تلك اللحظات التاريخية والحاسمة.
كما كان المسرح صوت الجماهير المطالبة بحقها فى الحرية والاستقلال من هذا الاستعمار الفاشى، وانطلقت العروض المسرحية، وترجم بعضها ليصل صوت مصر الصادق عن طريق فنونها، خاصة مع محاولة بث أكاذيب وشائعات من بعض المجتمع الدولى، الراغب فى إبقاء الأوضاع السياسية متأججة لتظل ذريعة لمطامع المستعمر الغربى، كذلك كان للفن التشكيلى ظهور جلى فى الرسومات التوثيقية والجرافيتى لبعض أحداث الثورة، وتجسيد الشخصيات الحرة التي نادت بتحرير مصر من سلطة الإخوان المسلمين والذين استهدفوا وقوع شهداء من المدنيين العزل، بفكرهم الإرهابى الوحشى.
وسعت الدبلوماسية الثقافية المصرية بعد ثورة 30 يونيو لشرح الصورة الحقيقية لما حدث دون مغالطات باعتبارها حراكًا شعبيًا وليس انقلابًا، كما حاول الخونة وأعداء الوطن تصدير هذه الأكاذيب، وتمت مواجهة الروايات الإعلامية المعادية التي روّجت لصورة سلبية عن مصر، والتأكيد على الهوية الوطنية المصرية كدولة حضارية تملك أفكارًا وسطية ومعتدلة، كما بذل جهدًا كبيرًا من أجل إعادة تثبيت مكانة مصر الثقافية فى أفريقيا والعالم العربى.
وامتد أثرها كثيرًا، حيث شكلت تجلياتها إنتاج عدد من الأعمال التي ارتكزت على كشف خطر التطرف الفكرى والدينى، ودور الجيش والشرطة فى حفظ الأمن، ومدى التضحيات التي يقدمونها، أيضًا كيفية العرض والتحليل للظواهر السلبية التي نعانى منها، والشروح المستفيضة من خلال المسلسلات التليفزيونية التي شاهدها الملايين فى أعقاب الثورة، فكان لها طيب الأثر على إيقاظ الوعى مثل مسلسل “الاختيار”، فيلم “الممر”، مسلسل “القاهرة كابول” وخروجها إلى الجمهور ومشاركاتها دعمت الدور الثقافى لتلك الرسائل الثقافية المستنيرة.
ثورة 30 يونيو، كانت وما زالت أيام لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الأمة، فهى الثورة التي أعادت لنا الاستقرار والطمأنينة بعد عام كامل من الظلام الدامس، وخيبة الأمل، فكان ميلاد هذه الثورة المصرية الشريفة العفية من رحم كافة الميادين المصرية، علامة وتأكيد على نصر الوعى المصري أمام محاولات الاستخفاف به، والسطحية المتعمدة تحت ستار الدين، وبعد أن بات القلق والدمار والتخلف هو السائد، فنسينا شكل بلدنا العظيم، بلد الحضارة والاستقرار، لنستشعر الخوف، ولم نهدأ إلا بلحظة وقوفنا نحتمى بجيشنا وشرطتنا فى مواجهة عدو لم يمتلك إلا فكرًا قبيحًا، ومخططات تدميرية، حتى تبددت تلك المخططات على يد وزير دفاع شجاع مغوار، قاد مصر إلى التحرير من المستعمر الخائن، وتبدلت مخططاتهم الكارثية إلى بداية نور وأمل لبناء جمهوريتنا الجديدة والتي بزغ شعاع بريقها منذ أن تجلت ثورة يونيو فى آفاق السماء المصرية لتبهر العالم بهذا المشهد التاريخى كذكرى راسخة بشمس تشرق ولن تغيب.