
عادات وتقاليد نساء مملكة البورنو في أفريقيا جنوب الصحراء

أ.د إبراهيم محمد مرجونة
في قلب الصحراء الكبرى، وامتدادًا لحضارات أفريقيا الإسلامية، نشأت مملكة البورنو التي شكّلت عبر قرون مركزًا هامًا للعلم والدين والتجارة. إلا أن ما يثير الدهشة والاهتمام في هذه المملكة ليس فقط ازدهارها السياسي والديني، بل الدور العميق والمعقد الذي لعبته النساء في تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي. يتناول هذا المقال أبرز العادات والتقاليد النسائية، مع التركيز على الجوانب غير المألوفة التي ميّزت مجتمع البورنو، وتفسير دلالاتها في سياقها الزماني والمكاني.
تُعد مملكة البرنو إحدى أعرق الممالك الإسلامية التي نشأت في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وقد ازدهرت منذ القرن التاسع وحتى القرن التاسع عشر الميلادي. لعبت النساء في هذه المملكة دورًا محوريًا في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية، ولا سيما في طقوس الزواج التي تمثل أحد أهم المعالم الثقافية في المجتمع البرنوي. يعكس هذا الدور المكانة التي حظيت بها النساء البرنويات في المحافظة على التقاليد ونقلها عبر الأجيال.
فقد تأسست مملكة البرنو في منطقة بحيرة تشاد، وامتدت سيطرتها إلى أجزاء من نيجيريا الحالية وتشاد والنيجر. وقد ورثت هذه المملكة تقاليدها من إمبراطورية كانم التي سبقتها، وتأثرت بالثقافة الإسلامية التي دخلت إلى المنطقة عبر القوافل التجارية والدعاة المسلمين (Hiskett, 1973). وكان للنساء دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية، حيث وُجدت نساءٌ بارزات في البلاط الملكي وفي الأنشطة الاقتصادية، ونذكر منها على سبيل المثال:
أولًا: سلطة النساء الروحية ومكانتهن كناقلات للمعرفة
من العادات غير الشائعة في المجتمعات الإسلامية التقليدية هو بروز نساء البورنو كمراجع دينية وروحانيات، يقدمن الرقى والفتاوى المحلية، ويُستشارن في شؤون المصالحة والنزاعات العائلية. كان يُطلق على بعضهن لقب "الشيخة"، وتعلمن القرآن وعلمنه في حلقات نسوية داخل البيوت. والغريب أن بعض المجتمعات في البورنو كانت تعتبر أن دعاء المرأة الصالحة أكثر استجابة من دعاء الرجل، خصوصًا في حالات المرض أو العقم، مما يعكس مكانة رمزية فريدة.
وصارت هناك رمزية دينية ومكانة مرموقة لهؤلاء النساء وقصدهن القاصي والداني بحثاً عن دعاء مستجاب ولاسيما الصالحات منهن ونالت النساء القدر والمكانة.
ثانيًا: طقوس الزواج المُعقدة وإقصاء الرجل من مراحل التحضير
يُعد الزواج من أكثر المظاهر الثقافية إثارةً للانتباه في مملكة البورنو. إذ كانت النساء يتولين كامل تنظيم مراسم الزواج، من إعداد العروس بدنيًا ونفسيًا، إلى اختيار الزينة واللباس، وحتى تحديد قائمة المدعوين.
والأكثر غرابة، أن العريس غالبًا ما يُعزل خلال الأيام الثلاثة التي تسبق الزفاف، ولا يُسمح له برؤية العروس حتى انتهاء "ليلة الكشف"، حيث تتولى نساء الأسرة الكبرى فحص العروس ومراقبة سلوكها في طقس يُعرف محليًا باسم “kumburu”، يُظهر أهمية "الشرف" في الثقافة المحلية، ولكنه أيضًا يبرز الطابع الأنثوي الصارم في الحكم على صلاحية الزواج فصاروا صناع ومتخذي قرار في هذا الشأن.
طقوس الزواج في البرنو لم تكن مجرد مناسبة اجتماعية، بل كانت طقسًا جماعيًا يحمل أبعادًا دينية وثقافية. تبدأ هذه الطقوس بخطبة رسمية تُدار من قبل نساء العائلتين، حيث تلعب الأمات والجَدّات دور الوسيطات بين الطرفين. يلي ذلك فترة من الاستعداد تشمل تبادل الهدايا وتحضير العروس نفسيًا واجتماعيًا للحياة الجديدة.
ومن أدوار النساء في تنظيم وإحياء الطقوس كانت النساء المسؤولات الأساسيات عن تجهيز العروس، ويشمل ذلك العناية بجمالها، وتحفيظها الأدعية والأمثال الخاصة بالزواج، وتعليمها فنون الطهي والتدبير المنزلي. وكانت "شيخة النساء" – وهي سيدة مسنّة تحظى باحترام كبير – تقوم بقيادة الطقوس، وتلقّن العروس ما يُعرف بـ "وصايا الزواج"، وهي مجموعة من الحكم والنصائح التي تُعطى للعروس ليلة الزفاف (Zeltner, 1964).
كما كانت النساء ينظمن حفلات الغناء والرقص التقليدي المعروف باسم "كالانغو"، ويشاركن في ترديد الأناشيد التي تحث على الاستقرار الأسري والطاعة للزوج، لكنها تؤكد أيضًا على كرامة المرأة وحقوقها داخل البيت الزوجي.
الوظيفة الثقافية والدينية للطقوس:تُعد هذه الطقوس وسيلة لنقل القيم الإسلامية والمجتمعية، إذ يتم خلالها تلاوة آيات من القرآن الكريم والدعاء للعروسين بالتوفيق. كما تعزز الطقوس الانتماء الجمعي، وتُظهر التماسك بين الأسر والقبائل المختلفة، ما يجعل من الزواج مناسبة لبناء التحالفات الاجتماعية والاقتصادية.
ثالثًا: لبوس الهيبة والحناء كأدوات سلطة
رغم المناخ الصحراوي القاسي، كانت نساء البورنو يحرصن على ارتداء طبقات من القماش المطرز، ليس بدافع الحشمة فحسب، بل كرمز للهيبة والمكانة الاجتماعية. الأغرب أن الحناء لم تكن مجرد زينة، بل أداة تواصل ثقافي، إذ كانت بعض النقوش تشير إلى الطبقة الاجتماعية أو الحالة العاطفية للمرأة. فالمرأة المتزوجة حديثًا ترسم نمطًا مختلفًا عن الأرملة أو الحامل، في ما يشبه "الرموز الصامتة".
رابعًا: الشعر الجماعي في المناسبات كأداة تذكير بالهوية
في طقس يُمارس في الأعياد والمناسبات الزراعية، كانت النساء يجتمعن للغناء الجماعي، لكن هذه الأغاني لم تكن فقط للفرح، بل تتضمن رسائل سياسية، ومقاطع هجائية للرجال الكسالى أو الظالمين. هذه الظاهرة، المعروفة باسم “zaure chants”، كانت تُعد أداة ضغط اجتماعي غير مباشرة، وتعبيرًا أنثويًا جريئًا عن الرأي في مجتمع تقليدي.
تبرز تقاليد نساء مملكة البورنو بكونها نافذة فريدة لفهم تفاعل المرأة الأفريقية المسلمة مع الدين، والمجتمع، والهوية. فبينما بدت هذه العادات غريبة أو غير مألوفة لمن ينظر من خارج السياق، إلا أنها كانت تحمل دلالات رمزية عميقة، تُعبر عن نظام اجتماعي معقد يحترم الدور النسوي، ويمنحه مساحة من السلطة والتأثير، حتى داخل أطر تقليدية صارمة.
تكشف طقوس الزواج في مملكة البرنو عن الدور الحيوي الذي لعبته النساء في تشكيل الهوية الثقافية والدينية للمجتمع. فمن خلال مشاركتهن في تنظيم هذه الطقوس وإحيائها، أسهمن في الحفاظ على التراث ونقله، وأكدن على مركزية المرأة في الحياة الاجتماعية في أفريقيا جنوب الصحراء.
