

مودي حكيم
85 عاما صحافة 17
كاهنة معبد الصحافة.. معلمة الأجيال
في الحياة نلتقي أشخاصا تتواصل معهم لأسباب مهنية أو شخصية أو اجتماعية، وقليلاً ما يجمعكما تجانس أو توافق بلا تكلف أو مقدمات، ومعرفتي بصاحبتنا تمت فى ظروف غريبة من خلال أطفالنا شريف وهشام، فهما من طلاب مدرسة واحدة، مدرسة "سان جوزيف" بمنطقة الزمالك.
بدأت مع نهاية اليوم الدراسي، وكلاً منا يصطحب ابنه في رحلة العودة بعد انتهاء اليوم الدراسي، وتعرفت عليه زوجتي أحبتها والتقت روحاهما في ألفة ومحبة، ليس لأنهما من بنات صعيد مصر، بل لرسوخ انتماء صديقتنا عواطف عبد الرحمن الشديد للقيم الإنسانية، والصدق والالتزام والوعي، والأمانة في القول والفعل والعطاء والإيمان بالآخر.
توطدت العلاقة ودعتنا فى شقتها السكنية المطلة على حديقة الأورمان ومديرية أمن الجيزة لنتعرف على زوجها ممدوح طه واحد من أعمدة الأهرام الذين أعطوا جهدهم ومواهبهم بأخلاص، وشاركوا محمد حسنين هيكل فى بناء الصرح الكبير، ورأس قسم الاخبار وهو المنصب التالي في الأهمية بعد رئيس التحرير، ومركز الثقل فى الصحيفة، وصانع انتصاراتها وتفوقها على غيرها من الصحف. عرفنا الصغير هشام ممدوح طه على اخوته من زوجة والده الأولى التي كانت قد توفيت.
أشرف الأخ الأكبر الذي أصبح فيما بعد ضابط شرطة وأختاه إيناس وأمنية اللتين انضمتا بعد تخرجهما لجريدة الأهرام، كما أصبح هشام من أفضل المترجمين ومحررا بالقسم الخارجي وبوابة الأهرام.
لكن الأمور لم تسر بينهما كما كنا نتوق، ليس لفارق السن بل لخلاف حول قضايا محورية في السياسة العامة وحول النضال من أجل العدالة الاجتماعية والتفاوت بين الأثرياء والمحرومين إلى جانب انشغالها بعملها الأكاديمي، وممدوح طه مهموماً بعمله كرئيس لقسم الاخبار، وانتهت حياتهما الزوجية بالطلاق بعد أن التقى بها بثمان سنوات، عندما تخرجت فى الدفعة الثالثة من قسم صحافة عام 1960 ، وعملت بقسم الأخبار.
عواطف ابنة عمدة قرية الزرابي بمركز ابوتيج محافظة أسيوط، نابغة منذ الصغر، فقد حصلت على المركز الأول على مستوي الجمهورية في التعليم الابتدائي، ثمن انتقلت للتعليم الإعدادي بمدينة أسيوط فتحصل ايضا على المركز الأول على الجمهورية، ولعدم توفر تعليم ثانوي فى وقتها بالصعيد ، انتقلت للقاهرة للدراسة لتحصد بعدها على المركز الأول على مستوى القاهرة، مما أهلها للدراسة بقسم الصحافة بكلية الآداب لتتخرج بتفوق عام 1960 ليرشحها أستاذها خليل صابات للعمل كصحفية فى القسم السياسي بجريدة الأهرام، فتفوقت وأجرت اكثر من مئة وخمسين حواراً مع العديد من السفراء والسياسيين، وحصلت على الماجستير فى رسالة عن صحافة الثورة الجزائرية، لتحصل بعدها على الدكتوراة عام 1975.
جابت عواطف الدول الأفريقية ، منه زيمبابوي وجنوب أفريقيا لأيمانها بأن في قارة أفريقيا العديد من الحضارات المستمرة ، وتعتبرها قارة المستقبل. نجحت في إنتاج عشرات الكتب العلمية، فقفز رصيدها 37 كتاباً، مما أهّلها للحصول على جائزة مانديلا في التحررالوطني وجائزة العويس للعلوم الاجتماعية والمستقبلية ، وجائزة البحرين للمرأة والطفل، وجائزة الدولة للتفوق العلمي عام 1999. كانت عواطف عبد الرحمن منذ كانت طالبةً بالجامعة مهتمة بالقضايا السياسية والنضال من من أجل حياة كريمة وعادلة للفقراء ، وطنية حتى النخاع، واشتهرت بمواقفها السياسية المعارضة للحكومة، في عهد السادات، واعتقلت ضمن أحداث سبتمبر "أيلول" 1981 في عهد الرئيس السادات مع د. لطيفة الزيات وأمينة رشيد، وصافيناز كاظم ضمن مجموعة شملت 1536 بسبب اعتراضها على معاهدة الصلح مع إسرائيل، وكتاباتها المهاجمة لاتفاقية السلام مع إسرائيل، ومكثوا فى السجن مئة يوم إلى أن أغتيل السادات، ورفضت استلام جائزة كالوتنيا الدولية بأسبانيا بسبب اقتسامها مع عالم اسرائيلي. كرست حياتها للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في أقامة دولتهم، والأفارقة في الحرية والاستقلال، إلى جانب الدفاع عن حقوق المرأة وأهل الصعيد.. وهي تتنبأ بتفكك الولايات المتحدة الأمريكي ، وانهيار المشروع الصهيوني وقيام الدولة الفلسطينية عام 2025.
فى عصر الرئيس مبارك منعت من السفر لمدة خمسة أعوام، وحرمت من المشاركة في المؤتمر الدولي للإعلام، ومن الحصول على منصب العمادة بكلية الإعلام لمعارضة أجهزة الآمن، عوضها عن هذا علاقتها بطلابها، وهي كأستاذة علام محبوبة ، تلعب دور الأم الحنونة مع تلاميذها، فتتواصل معهم بعد تخرجهم ، وتلتقي بهم في مناسبات مختلفة وتفرح وتسعد بما حققوه فى العمل الصحافي والإعلامي. ورغم أنها فى الخامسة والثمانون من العمر فهي ما زالت معطاءة وتشارك في المجال الإعلامي والهيئات ومراكز البحوث، تلاميذها اوفياء ومدنين لها بالكثير، إنسانيا وعلمياً، فقد تعلموا منها المبادئ الكريمة في حب الوطن والانتماء إليه، والقيم الإنسانيّة النبيلة في دعم ومشاركة الآخر في المجتمع الذي يعيش فيه، وطلابها يشعرون بالاعتزاز والفخر والأمتنان لهذه المعلمة الجليلة والأم الحنونة.