
حكاية مملكة حِبشِتْ العربية في أفريقيا

د. إسماعيل حامد
يهدف هذا المقال إلى التعريف بإحدى الممالك العربية القديمة المهمة، وهي المملكة التي ظهرت في بلاد شرق أفريقيا، وتحديدا في بلاد القرن الأفريقي، ألا وهي "مملكة حبشت"، ولقد تأسست تلك المملكة العربية القديمة في آراضي بلاد الحبشة. كما نحاول أن نتتبع أقدم الهجرات العربية المعروفة والتي خرجت من شبه جزيرة العرب بسبب إما ظروف سياسية، أم اقتصادية، أم بسبب عوامل طبيعية مثل الجفاف والجدب..الخ، ثم الذهاب إلى الساحل الأفريقي الشرقي.
كما نتناول دور تلك الهجرات في إحداث ما يمكن يشكل مظاهر للتطور السياسي والحضاري الذي كان قد شهدته تلك البلاد التي تقع على سواحل شرق أفريقيا، وذلك بفضل الوجود العربي، ودورهم في تأسيس مملكة يطلق عليها اسم حبشت ، وهو ذات الاسم الذي استخدم بعد ذلك للإشارة لبلاد الحبشة القديمة. من المعتقد أن أقدم تلك الهجرات العربية منذ قرون بعيدة قبل الميلاد، ربما يرجع بعضها لحوالي الألف الأول قبل الميلاد، ولعل أبرزها هجرات عرب حبشت من جنوب جزيرة العرب إلى الساحل الأفريقي.
يمكن القول بأن تسميةُ بلاد الحبشة ترجع فيما يتفق فيه أكثر المؤرخين نسبة إلى إحدى القبائل العربية التي كانت قد هاجرت من بلاد اليمن خلال القرون الميلادية المبكرة، أي قبل الإسلام بعدة قرون، وكان اسمها قبيلة حبشت . من المعروف أن الهجرة إلى بلاد الحبشة كانت أمرًا ميسورًا للقبائل والبطون العربية منذ ما قبل الإسلام، بفضل تقارب سواحل بلاد اليمن وسواحل أفريقيا لاسيما عند بوغاز (مضيق) باب المندب، وهو الذي يعتبر النقطة الأقرب بين الساحلين الشرقي والغربي للبحر الأحمر، فيما لايزيد عن 29 كيلومترا .
قبيلة حبشت العربية:
كانت قبيلةُ حبشت من أهم القبائل والبطون العربية التي هاجرت من شبه جزيرة العرب إلى آراضي بلاد الحبشة، ولقد ورد ذكر اسم تلك القبيلة، أي قبيلة حبشت، في العديد من النقوش والكتابات اليمنية القديمة، ولقد ورد الاسم بصيغ متباينة بعض الشيء، حيث ورد لفظ "حبش" في النقوش اليمنية بهذه الصيغ: "حبشت"، وكذلك "ملك حبشتن"، وكذا ورد الاسم هكذا: "مصور أحبشن"، وكان يُقصد بها: قواد بلاد الحبشة..الخ، وغير ذلك من الأشكال اللغوية .
ذويؤيد عروبة "بلاد الحبشة" منذ القدم أن "الموسوعة البريطانية" Encyclopedia Britanica تذكر أن سكان بلاد الحبشة كانوا - في الأصل- من المهاجرين العرب . ولعل في ذلك إشارة واضحة لقبيلة حبشت العربية، وربما يحاول البعض القول أن اصل حبشت نسبة لنسل شخص يدعى حبش، وهو لد حبش بن كوش بن حام . وهو قول ضعيف، ويعتمد على روايات مأخوذة على الراجح من الإسرائيليات، أو المخصادر التوراتية. ويذهب البعضُ إلى أن قبيلة حبشت كانت تسكن على الساحل الأفريقي أيضًا، ويرى البعضُ أن جماعات وفروع هذه القبيلة اتخذوا في هجرتهم ذلك الطريق البحري الذي كان يصل بين كل من خليج مصوع وهضاب بلاد الحبشة، ثم إنهم اتجهوا صوب الجنوب بعد ذلك، ومروا بآراضي مملكة أكسوم، ونكازه، ثم استقرت جماعات من قبيلة حبشت بعدئذ في المناطق الشمالية من آراضي بلاد الحبشة .
اسم حبشت ودلالته اللُغوية:
يمكن القول من ناحية أُخرى، أن مادة "حبش" (ح– ب– ش) في لغة العرب تدل على الجمع، والتحالف، ومن هذه المادة ظهرت العديد من الألفاظ العربية الذائعة بين المُتكلمين بلغة الضاد، مثل كلمة: "حباشة"، وهو سوقٌ من أسواق العرب القديمة والتي كانت ترجع إلى "أيام الجاهلية"، وهي حقبة ما قبل الإسلام، ومن أسماء الأعلام العربية: "حبشي"، و"حبيش"، وكذلك "الأحابيش"، وهم قوم من قريش، أو من رقيق (عبيد) مكة الذين تحالفوا، فأطلقت عليهم تلك التسمية .
وعن لفظ حبش يقول صاحب "مختار الصحاح": "حبش: الحبش والحبشة (بفتحتين فيهما)، جنسٌ من السودان، والجمع حبشان.." . ومن تفسيرات لفظ "الحبش": حيث قيل هم الجماعة أيا كان (أي أحباش أو غير أحباش)، لأنهم إذا تجمعوا، اسودوا . ويذكر اللُغوي ابنُ منظور أن بعض الأحياء بأرض مكة كانوا سموا بـ"الأحابيش"، وقد قيل: إنها لما سميت بذلك الاسم من قبل تجمعها، صار "التحبيش" في كلام العرب يُقصد به "التجميع" .
في ذات الشأن، يذكر اللغوي ابن منظور المصري في كتابه الموسوم "لسان العرب": "وحُبشي: جبل بأسف مكة، يقال منه سمي أحابيش قريش، وذلك أن بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده فحالفوا قريشًا، وتحالفوا بالله..وأحبشت المرأ بولدها: إذا جاءت به حبشي اللون، وناقة حبشية: شديدة السواد، والحُبشية: ضرب من النمل عظام، لما جعل ذلك اسما لها غيروا اللفظ ليكون فرقا بين النسبة والاسم، فالاسم حبشية، والنسب حبشية، وروضة حبشية: خضراء تضرب إلى السواد.." . ومن ناحية أوردت بعض المصادر التاريخية أصل تسمية حبشت من شخص اسمه حبش: "فبنو حام بن نوح، والحبش من ولد حبش بن كوش بن حام.." ، وهي رواية ضعيفة.
استقرار جماعات حبشت العربية شمال بلاد الحبشة:
لما سكنت جماعات وبطون عرب حبشت في الآراضي الشمالية من بلاد الحبشة على أية حال، فقد نُسبت تلك المناطق الشمالية لهم، ومن ثم سُميت بهم، ثم أطلق العربُ اسم الحبشة على كافة آراضي هذه البلاد، ومنها أخذ المؤرخون الرومان واللاتين بعد ذلك تلك التسمية ذات الأصل العربي، وأطلقوا على هذه البلاد Land of Abyssinia أي: بلاد الحبشة .
من اللافت أن عددا ليس بالقليل من المؤرخين الأفارقة ذاتهم ينسبون تأسيس مملكة أكسوم الحبشية إلى إحدى القبائل العربية، ولعلها هي ذاتها قبيلة "حبشت" التي ورد ذكرها آنفا، وعن ذلك الأمر يذكر المؤرخ "ساهيد أديجوموبي" في كتابه المعروف بـ"تاريخ إثيوبيا" أنه في خلال القرن الثاني الميلادي قام أحد الشعوب السامية التي كانت قد هاجرت من شبه جزيرة العرب، وهو ما يعني تأكيد أنهم شعب من أصول عربية، بتأسيس "مملكة أكسوم" في بلاد الحبشة .
مملكة حبشت العربية وارتباطها بمحاولات البعض فرض الصبغة اليهودية على بلاد الحبشة: يرى المؤلفُ، من جانبه، أن ذلك يشير إلى الدور الكبير الذي قامت به القبائل والبطون العربية في بلاد الحبشة منذ أقدم العصور التاريخية، ولعل ذلك ما يفسر لنا بشكل أو بآخر محاولات ملوك "الأسرة السليمانية" بعد ذلك للتأكيد بشكل يبدو مبالغ فيه على أن نسل ملوك بلاد الحبشة القدامى يرجع نسبه لحكام مملكة إسرائيل القديمة، وأنهم من نسل الملك منليك الأول، وهو ابن سليمان ملك إسرائيل الذي حكم في الفترة من سنة 970 إلى سنة 940 ق.م.
ولاريب أن الغاية القصوى من ذلك بهدف إبعاد أي علاقة تربط بلادهم بالقبائل العربية، ومن ثم محو الوجود العربي من بلاد الحبشة بسبب تعصبهم الديني الشديد. ومما يؤكد عروبة بلاد الحبشة من الأصل قصة "ملكة سبأ" الواردة في الكتب المقدسة، فهي ملكة سبأ كما توصف في القرآن والتوراة، أي أنها ملكة عربية الأصل، إلا أن ملوك "الأسرة السليمانية" التي تأسست في النصف الثاني من القرن 7هـ/13م، ومن جاء بعدهم من الملوك حتى العصر الحديث، زيفوا فيما يبدو التاريخ، وادعوا بأنها ملكة الحبشة.
وهذا أمرٌ غير صحيح بالطبع، حيث إن روايات الكُتب المُقدسة تصفها بأنها ملكةٌ عربيةٌ، وأنها كانت ملكة بلاد سبأ، وهي تلك المملكة العربية التي تأسست كما هو معلوم في "أرض اليمن"، وقد كان ذلك قبل قيام أقدم الممالك الحبشية على الإطلاق، وهي التي تُعرف بمملكة أكسوم. يرى البعضُ من جانب آخر أن بلاد الحبشة تتمتع من الناحية الجُغرافية والتضاريسية بأنها بلاد ذات طبيعة جبلية، وهي تتميز أيضاً بأنها موقعٌ حصين ، وهو ما أعانها طبيعتها على مُقاومة الغزاة، وربما لهذا قال البعض: "إن أمطارها تمسح الطرق والجيوش" .
وتصف بعضُ المصادر التاريخية الوسيطة الأحباش من جانب آخر بأنهم من أكثر الناس عددًا، وأطولهم أرضًا، لكن بلادهم قليلة، وأكثر أرضهم صحاري، وطعامهم الدخن والحنطة، وعندهم الموز، والعنب، والرمان، ولباسهم الجلود، والقطن . أما فيما يخصُ عقيدة "الأحباش" خلال حقبة العصر الوسيط، فإنهم كانوا في الغالب نصارى، وكانوا يتبعون مذهب الكنيسة المصرية اللاهوتي، وهو المعروف بـاسم المذهب المونوفيزيتي Monophystisism، أو مذهب الطبيعة (Physis) الواحدة (Mono) . وهو ذات المذهب المعروف في أكثر المصادر الكلاسيكية باسم: "مذهب اليعاقبة"، ولهذا يقول القزويني (ت: 682م) عن سكان هذه البلاد: "وأكثر أهلها نصارى يعاقبة، والمسلمون بها قليل.." .