د. حسام عطا
د. أحمد هنو.. واتجاه السير الصحيح لوزارة الثقافة المصرية
حقا ليس دور وزارة الثقافة الرد على الشائعات هكذا حسم د. أحمد هنو وزير الثقافة المصري خلطا في الأدوار بين مؤسسات الدولة، ولعل إشارته الإيجابية إلى وجود مفردات ثقافية متنوعة يراها أكثر أهمية من فترة الخمسينات والستينيات هي إشارة إيجابية أيضا تنهي تلك المعادلة التي هيمنت على خطاب تاريخي للوزارة مفادها أن مشكلة الإبداع المصري في المبدعين وليست في الإدارة.
كما أن الإشارة التي تبقى لصالح شباب المبدعين والمتلقين معا حول وجود جيل جديد نحتاج إلى فهمه وتصديقه ومنحة الفرصة، فهي إشارة إيجابية.
أما إشارته إلى أن هناك غيابا في الثقة في المبدعين الجدد لدي أهل الإبداع، فهي مسألة يمكن الخلاف عليها.
فلم يحصل أحد في المؤسسة الثقافية الرسمية على فرص مثلما حصل عليها الشباب طوال السنوات العشر الماضية، وأجيال جديدة جاءت للقيادة الثقافية كانت بالأمس القريب تستمد مشروعيتها من كونها تنتمي للشباب الجدد. أما ما هو حادث حقا ويجب الانتباه اليه أن العالم كله، وكل مراحل الازدهار في الثقافة المصرية حرصت على مد جسور التواصل بين الأجيال، وعلى وجود كل الرموز والرواد وأصحاب الخبرات بجوار الشباب الجديد وهو ما يمنح المشهد الإبداعي والثقافي الحيوية والتنوع، ولا يحرم جيلاً على حساب جيل، ولا يدق أسفينا بين الأجيال، بل ويمنح الجدد المشروعية والتألق جنبا إلى جنب مع الرموز البارزة وأصحاب الخبرات، وإن كان هذا لا يتعارض بالتأكيد مع إيماني الكامل بأهمية تمكين الشباب فهم صناع المستقبل.
فهذه المفردات الفنية التي رصد د. أحمد هنو ثرائها تحتاج للعمل جنبا إلى جنب، ذلك أن الإبداع والعمل الثقافي يحتاج لتجربة الرجال وحكمة الشيوخ وحيوية الشباب، وما أمتع أن يبدع الفنان وسط حديقة الشباب المزدهرة في مصر التي تتميز حقا من واقع آخر تعداد للسكان بكونها أمة شابة، ماذا ننتظر إذن؟ بعد هذا التحديد الواضح الذي يبعد وزارة الثقافية عن الأعمال الدعائية والرد على الشائعات.
يمكن حقا أن نبتهج مجددا بفهم دقيق لدور وزارة الثقافة المصرية في الحفاظ على النسيج الوطني للهوية المصرية، وتنقيتها من الشوائب الطارئة وتعزيز وتطوير قيمتها ومفاهيمها الأساسية للدخول نحو المستقبل.
كما أنه حقا لدينا جيل جديد يجب أن نفهمه ونعرف كيف نخاطبه من المستهدفين من عمل المؤسسات الثقافية. مما يجعلني أتذكر ما علمتني إياه التجربة العملية، وهو ضرورة فهم الإطار المرجعي للجمهور المستهدف وكيف تكون؟ وماذا شاهد من أعمال؟ وما هي خبراته الجمالية والمعرفية؟
جيل جديد من الجمهور تفتحت عيونه ووعيه على أنواع معينة من الفنون التعبيرية، معظمها خارج مفهوم الفنون التعبيرية الجميلة، مما صنع هذا الفصل العنصري بين أيام الفن الجميل في الخمسينيات والستينيات، وبين هذا الفن المعاصر الجماهيري والذي يتلقى موجات من البكاء والهجوم وعدم التقبل والاعتراف، لأنه ببساطة ليس امتداداً لأيام الفن الجميل.
وهذه المشكلة التي يراها وزير الثقافة المصري هي تعبير عن وصف دقيق لمشكلة كبرى، ولهذا الفصل العنصري بين الماضي والحاضر، وذلك الحنين الدائم للبكاء على الأطلال. إنهما مشكلة يعرفها بل وعاني منها جيلي في صمت. وهو هذا الجيل الذي عانى من اعتراف منقوص من الجيل الذي سبقه، ولم يحصل على تقدير أعطاه للجيل الذي سبقه، من الجدد الذين حضروا للساحة حديثاً.
إنه ذلك الجيل الذي منح عمره للعمل المهني، وعرف القواعد المهنية والتي يأتي على رأسها انفصال ضروري للإبداع عن العمل الدعائي والإعلامي.
ذلك أن التنمية الثقافية والحرص على المشتركات الجامعة في الهوية الوطنية، والحرص على المصداقية وتبني آلام وآمال الجمهور الكبير في مصر، هي المسألة التي تمثل الروح في عملية متكاملة للتنمية الاقتصادية ومواجهة مصر للمشكلات التاريخية المتراكمة، وحروبها المتعددة في مشهد داخلي وعربي وإقليمي ودولي مختلف وبالغ التركيب والتعقيد.
وهذا أمر حقا يحتاج للشباب ولأصحاب الخبرات الناضجة القادرين على العطاء.
وفي هذا الباب الكبير تذكرت عددا من الدروس المهمة ربما تأتي ضرورة لفهم واقع ذائقة الجمهور الكبير الآن في مصر، في إطار البحث عن طريق لمنحه المتعة والتسلية والبهجة والعمق الجمالي والمعرفي، لردم تلك الفجوة الكبيرة بين مفهومي الفن الجميل، والفنون المعاصرة، ذلك أن الإطار المرجعي للجمهور العام هو المدخل الوحيد والباب الصحيح الشرعي القادر على إيجاد هذا التواصل الذي نسعي إليه. وفي هذا أذكر نفسي وجيلي والجدد والمؤسسة الثقافية بعدد من الملاحظات الضرورية التي تعلمناها من تاريخ الفنون وإنتاجها ونجاحها ودخولها للمستقبل، ذلك أن الفنون لا تتقادم بل تعيد إنتاج نفسها مرة أخرى، هكذا فعل شكسبير معاصرنا وتوفيق الحكيم معاصرنا وصلاح عبد الصبور معاصرنا أيضا وعدد من العلامات الإبداعية الهامة، جميعهم عرفوا عصرهم وجمهورهم ومحليتهم وخصوصيتهم الزمانية والمكانية، فحققت لهم القدرة على مخاطبة المستقبل عبر فهم للمشتركات الإنسانية الأساسية. ولكل هذا النجاح أساس نظري يقوم على القدرة على الامتاع والتشويق وتهذيب العواطف، وجماليات الحزن وذكاء الضحك، ويتأسس على درس نظري هام، وهو فهم الإطار المرجعي للجمهور.
إنه الاتجاه المعاصر نحو ضرورة فهم المتلقي، وهو الفهم الذي يمنح عملية التلقي والتي يمارسها الجمهور أهمية مساوية لعملية الإبداع، فالجمهور له ذات الحرية في الفهم والاستجابة بمقدار يساوي حرية المبدع الأصلي. وهو الأمر الذي يسميه النقد المعاصر بأفق التوقعات. وهذا الأفق هو توقعات الجمهور وماذا يريد؟ وكيف يتلقى الفنون التعبيرية، وهي أسئلة تحتاج لإجابات حقيقة وجادة.
وأفق التوقعات هذا هو الذي يتم من خلاله قياس المسافة الجمالية التي يولدها الإبداع الجديد، وقدرته على إدماج الابتكار والتجديد مع ما يحتاجه الجمهور المحكوم بإعداد ثقافي محدد، قد غيره وطوره وجدده بلا شك عالم الشبكة الدولية للمعلومات، بكل ما أتاحه في يسر وسهولة.
مما يفتح المجال لعلم جمال الفنون بمعناه الحيوي القادر على تعزيز كفاءة الحضور لدى الجمهور العام. وهو ذلك الجمهور الذي يتربى في التعليم العام ويتغذى على ما تقدمه له وسائل الإعلام المتعددة وبالغة الكثافة والتأثير. ذلك أن الفنون التعبيرية عرضه للتفاعل مع عدد من المراجع الثقافية والفنية والشعبية. فالمتلقي ليس كتلة كبيرة واحدة، فعلينا أن نتذكر عند توجيه الإبداع للمتلقي، مسألة عضوية هذا المتلقي في طبقة أو مستوي اجتماعي أو مجموعة معينة، ومن خلال مجمل موقعه الاجتماعي والمادي، دخله وقت فراغه، ظروف عمله وطريقة حياته بشكل عام، ليمكن تحديد كيفية مخاطبته فنياً.
وعليه فإن الفنون التعبيرية يجب أن تقوم عروضها على أساس المعايير الثقافية والنسقية للمجتمع ككل. وعلى هذا الأساس توجد مسافة جديدة للابتكار والتجديد يمكن تحققها، وهكذا يمكن لنا أن نستعيد التكامل بين الجماهيرية والقيم الجمالية والمعرفية، وفي هذا حقا تعزيز للهوية المصرية وقدرتها على الدخول نحو المستقبل، ومخاطبة الجمهور المصري والعربي والبشر في كل مكان.