عاجل
الإثنين 20 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
د. مصطفى مدبولي.. القاهرة التاريخية والمسرح المصري

د. مصطفى مدبولي.. القاهرة التاريخية والمسرح المصري

هكذا تحدث الخديو إسماعيل إلى المهندس الفرنسي "هوسمان" المهندس البارع في تخطيط المدن آنذاك: 



"أريد الأزبكية قطعة من باريس تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء (بولونيا) وبين منطقة أوبرا باريس والأحياء التجارية حولها".

إنه إسماعيل (1863 – 1879) المختلف عليه، إلا أنه بلا شك صاحب الأثر الكبير في مسألة الحداثة المصرية وعلاقتها بالحداثة الأوروبية.

وبعيداً عن مناقشة ازدواجية الحداثة المصرية وانقسامها إلى أسئلة تاريخية تتصل بالواقع المصري المعاش بل وبالمستقبل، وجوهر أزمة الهوية بين الحداثة الغربية والمشروع الاستعماري الغربي الممتد والمتشكل في أطوار متعددة تاريخية ومعاصرة.

فإن المكتسبات المصرية في الحداثة وعلاقتها بالحداثة الغربية تعد أحد أساسيات مصر الحديثة بلا شك، التي بدأ مشروعها مع محمد علي الكبير، والذي راهن على تراث مصر الحضاري كأول حضارة في التاريخ، وعلى قدرات الشعب المصري والتي اعتمد عليها في مشروعه التحديثي الذي كان يرى الواقع جيداً بعد قرون من الإحباط والتجريف العثماني لمصر ومحيطها العربي.

ولذلك فأي محاولات تجديدية معاصرة يجب أن تضع في بؤرة اهتمامها الهدف الواضح الذي حدده الخديوي إسماعيل عندما تحدث عن القاهرة الخديوية ومنطقة الأزبكية.

وإذ افتقد المهندس المصري الوطني محمد أبو سعدة في مشهد مبهج اختتم به دولة رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولي العام الماضي في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2024، في جولته التفقدية مع المهندس شريف الشربيني وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، والسيد محافظ القاهرة د. إبراهيم صابر في منطقة الأزبكية، وإذ تقوم الشركة المصرية العريقة المقاولون العرب بعملية تطوير المنطقة، والتي قامت بإسناد الاستشارات الهندسية إلى د. ماهر استينو، والذي أدعوه إلى ضرورة حضور جهاز التنسيق الحضاري والمهندس محمد أبو سعدة حضوراً هندسياً وثقافياً في المشروع، خاصة أن ملف تطوير القاهرة الخديوية كان الملف الأهم في التنسيق الحضاري لسنوات طوال.

وإذ حدد د. مصطفى مدبولي الهدف من المشروع بأنه:  "إعادة الرونق الحضاري وتجديد الروح والدور الثقافي والتاريخي وتعزيز الأهمية السياحية للمنطقة". فقد أثار هذا الهدف اهتمامي وسعادتي إذ يبدو ممكناً حقاً أنه قد حانت الفرصة لإنقاذ منطقة المسارح الأكثر أهمية في مصر من الضجة والزحام ومشاهد عبثية للباعة الجائلين ومحطة أتوبيس العتبة الكبرى وعربات الأجرة والتسوق الشعبي والزحام.

وهو الأمر الذي تكرر الحديث عنه منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن.

وفي سياق متصل أجدد التذكير بأن هدم دور العرض المسرحي والسينمائي والذي زحف بالتدريج مع نهاية القرن الماضي واستمر بشكل متصل مع إهمال دور العرض في منطقة وسط المدينة، كي تبدو قديمة ومحاطة ببيئة رثة من المقاهي الصاخبة يعلوها التراب وكأنها تستعد لدورها في الإغلاق، هو أحد أهم أسباب تراجع المواسم الفنية وحضور الجمهور، وانهيار العادة الاجتماعية المصرية التاريخية في الذهاب لدور السينما والمسرح، لصالح المهرجانات المتعددة، والتي تكاد تكون ظاهرة يومية باهتة الأثر الثقافي الحقيقي، كمصادر للضوضاء الثقافية الصاخبة، والتي تذهب بلا أثر أدراج الرياح، بما ساهم حقاً في إفقار وتراجع المسارات المهنية في إنتاج الفنون التعبيرية والتي هي علامة على وجه مصر الحضاري، والتي كانت أيضاً أحد أهم مصادر الدخل القومي المصري. وهى المسألة الحقيقية التي يجب أن تدركها الدولة المصرية، وليس في ذكرها ذكر لسلبيات تحاول وزارة الثقافة تجاهلها، بينما هي جوهر عملها، والذي يجب أن يبدأ بالاعتراف بوجود مشكلة جوهرية في ميزانياتها وفي اتجاهها نحو الشخصنة والإنكار، وهو الوجه الواضح لعمق الولاءات التحتية لأشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، تعيد الوزارة تدويرهم في مقاعد هامة، ليعيدوا بدورهم إنتاج الإغلاق وأداء الهواة ومنع المحترفين البارزين وإنكار المبدعين الحقيقيين والذي بات إنكار وجودهم خسارة كبرى للهوية الثقافية المصرية، وسلوكاً بالغ الاستفزاز يقوم على إقصاء بلا معنى لعدد كبير من المهنيين من كل الأجيال، كل مشكلتهم أنهم غير منتمين لمجموعات المصالح الضيقة والصغيرة والتي تزور لهم صوراً كئيبة وساخرة ومعذبة وغير حقيقية ولا صلة لهم بها، بينما هم بمهنيتهم علامة الجودة الحقيقية التي يتم إنكارها عبر الضجيج والإيذاء الشخصي وجميعهم من المهنيين المصريين المنتمين للثقافة الوطنية ومن صناعة الدولة المصرية، وله منهم كل الولاء ولمهنتهم المنحازة لقيم الحق والخير والجمال. ولذلك أدعو د. أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة ليس لإقامة تكريم للبارزين في النشاط الثقافي عام 2024 في يوم الثامن من يناير 2025 كما أقترح، ولكن أيضاً بدعوة النقابات المهنية والمؤسسات ذات الصلة إلى اقتراح قوائم بالأعضاء أصحاب الخبرات التاريخية والاعتراف المصري والعربي والدولي بهم، ومعظمهم قادر على العطاء أو منح الاستشارة ووضع الخطط والبرامج التنفيذية، وهم في معظمهم قيد احترام أنفسهم في بيوتهم العامرة، والتي لا يعرف أحد ماذا يجري فيها لأنهم من أهل العز والأصل والإنجاز المعرفي، والذي يجعلهم هم الأغنياء، رغم كل الملايين التي حصدها هؤلاء عبر التجمعات ذات الولاء التحتي، والتي هي في صلة مباشرة ببيع دور مصر التاريخي لمراكز عربية جديدة، والمشكلة أنهم يصدرون لتلك المراكز العربية الجديدة النسخ الأكثر رداءة من الإنتاج المستحدث في الفنون التعبيرية المصرية.  ويمتد ذلك الأمر في سياق متصل إلى ترك المسرح العائم بمنطقة المنيل، وهي مسألة ذات صلة بمخطط القاهرة الخديوية.  إذ يجب أن تحتوي خطة التطوير والتي تجري الآن على إعادة إطلاق المسرح كمكون أساسي في رؤيتها الجديدة في منطقة المنيل، وعلى إصلاح الجزء العائم المتحرك كي يستعيد سفره المسرحي إلى ربوع مصر كما كان يحدث، ويستعيد جولاته عبر النيل، وهو المسرح الذي يتم إخلائه الآن، دون أن يسبب ذلك حزناً إلا لبعض من أهل المهنة.  بينما يجب جعله مكاناً هاماً للمسرح في أي خطط مستقبلية لهذه المنطقة على نيل مصر، بل ويمكن مبدئياً تفعيل  تلك العوامة الرائعة لعودة جولاتها في القاهرة الكبرى عبر المراسي الرائعةوالتي هي منجز حضاري تم تطويره في مشروع ممشى أهل مصر، وامتداد ذلك إلى كل مدن مصر من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، بل واستحداث نقاطا ثقافية جديدة للفعاليات الفنية والسياحة الثقافية، في هذا الممشى المصري الحضاري البديع، مما يستعيد للنيل العظيم بهجة فاعلياته الثقافية والفنية.

ولذلك فالأمر ليس صراع إرادات بين المهنيين المصريين ومخطط تطوير شاطئ النيل في العاصمة المصرية، بل هو أمر يمكن عبر التفكير الإبداعي الخلاق الوصول فيه لحل توفيقي جاد يحقق الاستثمار بمعناه الرمزي والمادي معاً، ويحقق لأهل الفنون التعبيرية في مصر مساحات إبداعية جديدة وملهمة.  ومن تلك المساحات حقاً ما هو مستهدف في مشروع تطوير الأزبكية، والتي نتطلع جميعاً إلى رؤية المسرح المفتوح بها وإلى رؤية الفضاء العام الحضاري حول مسارحنا التاريخية القومي والطليعة والعرائس بها. بل وربما نتطلع إلى استعادة المسرح الذي كان في مبنى بريد العتبة، وهو المسرح التاريخي الذي أسسه الخديو إسماعيل وصممه المعماري الألماني جوليوس فرانز وتم افتتاحه عام 1869. وأطلق عليه الكوميدي فرانسيز في اهتمام بالنسخة الفرنسية الأصلية، وهو المسرح التاريخي الذي ذهب مع الريح عندما تم إيقاف العروض عليه عام 1887.  كما يمكن إعادة الرؤية الهندسية للجزء العلوي  الباقي بمحاله التجارية وحيوية ميدان الأوبرا التاريخي، ومعالجة ما هو على سطح الأرض معالجة مبتكرة تجمع بين استعادة دار الأوبرا الخديوية بتاريخها وطرازها المعماري الأصلي مع الأغراض الجديدة، وهى الدار التاريخية التي تم إحراقها عام 1971، مع بالغ الأسف الجمالي والمعنوي والفني والتاريخي عليها، ولا أعرف حتى الآن كيف لم تقم المؤسسة الثقافية الرسمية بعملية استعادتها من جديد. وهى ليست مسألة صعبة مع التطور العمراني الكبير الذي تشهده مصر الآن بينما أضاف المصريون أمراً شعبياً حضارياً للمنطقة، ألا وهو سور الأزبكية لبيع الكتب القديمة وهو الكنز الشعبي المصري والمعرض الدائم في مصر للكتاب وهو ما يجب تنظيمه والحفاظ عليه وتطويره بما يحقق له الاستمرار والمظهر الحضاري معاً.

عام 2025 يأتي ومعه الأحلام الملونة التي تعيد تشكيل الواقع في مصر نحو الأجمل، وهو ما نتمناه حقاً لمصر الحاضر والمستقبل. عام سعيد جديد إن شاء الله على مصر والمصريين.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز