د. حسام عطا
عن صناعة المحتوى الثقافي والإعلامي.. قوة الاعتراف وقوة الإنكار
قوة الاعتراف هي القوة الإنسانية العظمى القادرة على إصلاح كل ما يمكن إصلاحه، وعلى تغيير وجه الحياة نحو الأجمل والأكثر إنسانية.
وإذا ما كانت نسبية الحقيقة وتعدد وجهات النظر، والاعتقاد في التنوع والتعدد والاختلاف، والاعتراف بفهم حقيقي بتعدد تأويلات الشعب المصري للأحداث والظروف التي يمر بها، وأيضاً ما يتلقاه من ثقافة وفنون، هي القاعدة التي يمكننا البناء عليها، فسوف نسير نحو الأجمل رغم صعوبة الطريق. يأتي لي هذا الخاطر منذ بداية التغييرات الملحوظة في الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، والهيئة الوطنية للإعلام، وأيضاً في وزارة الثقافة المصرية مع التغيير الوزاري الأخير. وإذ تكررت الصيحات المتعددة حول ضرورة تحسين بيئة العمل الصحفي والإعلامي والفني والثقافي في مصر، فالبداية تأتي حقاً من قوة الاعتراف. وهذه البيئات المهنية المهمة القادرة على تدعيم وحدة النسيج الاجتماعي المصري وتعزيز صناع الهوية المصرية والحفاظ عليها قد أصبحت الآن في معظمها مسارات مهنية يمارس فيها القابضون على الجمر عملهم المهني من مصر ولمصر أولاً، وفي ذلك إشارة إلى المؤسسات الرسمية التاريخية العاملة في هذه المجالات الحيوية، والتي يجب الاعتراف حقاً بحصولها على المصادر المالية المناسبة لاستمرار عملها التاريخي وتطويره نحو المستقبل.
كما يجب الاعتراف أيضاً بأن إنشاء كيانات جديدة في الإعلام والإنتاج الثقافي ليس سيراً في طريق ترك الأشجار الكبرى القديمة بلا رعاية ولا عناية، بالنظر إلى مزايا عديدة تتمتع بها الكيانات الجديدة، إذ يجب الإعتناء بالجديد والتاريخي معاً.
هذا مع الإدراك والاعتراف أيضاً بأن التمييز في مصادر التمويل والدعم ليس طريقاً يؤدي إلى الانسجام وتعدد الأدوار، لكنه طريق يزرع الألم في الصدور.
كما يجب الاعتراف أيضاً بغياب واضح من الجمهور المصري الكبير عن المتابعة الجادة لمعظم ما يصدر عن تلك الكيانات الجديدة إلا قليلاً، نظراً لتكرر الخطاب الصادر عنها وإلحاحها على مجموعة بعينها من القضايا تشكل نوعاً من المطاردة المنظمة التي تساهم في انصراف الجمهور العام بنسب واضحة يمكن رصدها عبر متابعة نسب التردد في القنوات التليفزيونية وشراء ومتابعة الصحف والمواقع الإعلامية.
أما على صعيد الإنتاج الثقافي وبعيداً عن الإشارة للأفراد، فلا يمكننا استخدام قوة الإنكار لمشاهد غياب الاحتراف عن كيانات مهمة، وهو الغياب الذي أدى إلى تعطيل عمل مؤسسات كبرى في المسرح المصري وغياب مواسمه ورحيل النجوم عنه إلا قليلاً أيضاً وتركهم في مغامرة العمل بلا مواسم وبلاد دعاية احترافية.
وأيضاً غياب مؤسسات الإنتاج الدرامي عن إنتاج أعمال كبرى تبقى في وجدان المصريين والإصرار الواضح على إنكار كل ما يكتبه النقاد وعلماء الاجتماع وكتاب الرأي والجمهور عن ضرورة التوقف عن درامات البلطجة ونماذج القوة المفرطة والضحك الخشن ودرامات إعادة تشكيل المجتمع المصري إلى حارة شعبية عجيبة يحكمها البلطجي والمرأة الداهية والمغامرون من أجيال تقطع صلتها بفخر بكل قيم الحارة المصرية العظيمة، أما القسم الثاني في تلك الدرامات الأخيرة فهو عالم المنتجعات والأثرياء الذين يسرقون زوجات بعضهم البعض، ويبدون في هيئة العصابيين الذين يعذبون الناس ويملكون من القصور والسيارات ما يثير حفيظة أهل العمل والمهن في مصر العظيمة.
وأيضاً يصبح السؤال عن الانحياز لكل ما هو جديد وكأنه صحيح وإهمال الكبار من المبدعين وأصحاب التاريخ والتجربة المهنية، وكأن هناك اتفاقا سريا لقطع الصلة مع تقاليد المهن الفنية والإبداعية والإعلامية، مما يعمق الفجوة بين زمن أطلقوا عليه زمن الفن الجميل وبين زمن معاصر جديد علينا أن نقبله كالقدر ونمارس نحوه الاختباء والصمت والذهاب إلى بعيد، حيث لا يتسبب أحد في وضع الملح في جراحنا التي نحاول أن ننساها، ونحن نشاهد هذا التحالف الجديد الذي وثق علاقته بمراكز إنتاج عربية ثرية، بينما حرص على البقاء في سلطة تؤدي إلى إبعاد الكبار وأصحاب الاعتراف إلى حد جعل عملهم من أجل المحتوى الثقافي العميق هو عمل يجب أن يبقى وكأنه عملاً تطوعياً. أما القوة الأكثر ايذاءاً فهي قوة الإنكار.
والإنكار هو إنكار لحال نراه جميعنا من غلق للأبواب أمام المواسم المسرحية واستبدالها بالمهرجانات، وترك الخريجين من أكاديمية الفنون في العراء والدفع بخريجي مراكز الهواة إلى بؤرة الضوء، وجعل الارتجال قيمة عليا، وترك أمهات النصوص وكبار الكتاب على الأرفف المهملة التي يعلوها التراب، بل وإنكار ما يكتبه النقاد، وما يصدر عنهم ومحاولة الاستقواء بسلطة الإنكار وهى الطريق السريع نحو غياب التقاليد المهنية والتي يغيب معها إن غابت كل ما هو جميل.
أما ما يكتبه الأفراد عن عدم قدرتهم على التواصل مع إدارات تلك المؤسسات التي يمولها الشعب المصري، والتي هي ملك له في النهاية فحدث ولا حرج.
أما عن مجموعات المصالح الصغيرة التي حققت ثروات طائلة وتبادلت المنافع وأسهمت في تراجع الدور المصري القيادي والرائد في الإنتاج الثقافي والإعلامي، فيعرفهم الجميع، تعرفهم الأفراد والمؤسسات الكبرى التي يعض العاملين بها أصابعهم، بينما يتابعهم الجميع في صمت عجيب يحتاج إلى تفسير نفسي أولاً، قبل تفسير الولاءات التحتية والحرص على المصالح الصغيرة.
وربما ما دفعني حقاً للحديث عن قوة الاعتراف وقسوة قوة الإنكار، هو ما تكرر من مصادر مسؤولة عن الدولة المصرية حول ضرورة وحدة النسيج المصري والالتفاف حول الهوية المصرية، وهو الحل الأمثل والطريق الصحيح للحفاظ على مصر وقيادتها وجيشها واقتصادها وقيمها وأخلاقها ورمزية وجودها التاريخي في فجر الإنسانية، في ظل ما يحيط بنا من كل اتجاه من تهديدات على الصعيد الإقليمي والدولي. وإذ نجحت ثورة مصر في 25 يناير/ 30 يونيو في مسارها نحو اختيار سياسي وطني سليم، أدى إلى إفشال كل مخططات تقسيم مصر وتغيير هويتها، فحقاً قد أصبح وبعيداً عن أحاديث السياسة ومحاولات تعميق الاستقطابات المتعددة أن ندرك أن قوة الاعتراف في العمل الثقافي والفني والصحفي والإعلامي هي الطريق الأمثل عبر تصحيح جودة المحتوى وعبر تمكين المبدعين والمخلصين من صناعة هذا المحتوى فكرياً وجمالياً، هي تلك القوة القادرة على تعزيز الهوية المصرية، وهي تلك الهوية التاريخية الصلبة المرنة معاً والقادرة دوماً على الحفاظ على قوة مصر.