عاجل
السبت 11 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الذائقة الفنية المتعددة.. التنوع الثقافي ومجموعة البريكس

الذائقة الفنية المتعددة.. التنوع الثقافي ومجموعة البريكس

اهتمام واجب وتقدير للاهتمام الروسي المتصل ومجموعة دول البريكس بالنقاش الثري في منطقة النخب الاقتصادية والثقافية الفاعلة، مما يفتح الباب لانتقال أهداف مجموعة البريكس من المستوى الرسمي إلى نقاش أكثر اتساعاً، وفي ظل تجمع مهم يستهدف تعزيز النظام العالمي المتعدد من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين، يبدو لي الهدف الثقافي في الفنون التعبيرية، وهو الهدف الذي أود تسليط الضوء عليه في إطار الأمل الذي أحيته البريكس في عالم متعدد القوى، ولذلك رأيت أن أضع هدفاً يحمل طابعاً إحيائياً لقضية مهمة حول دور الفنون، وهي في تقديري تتجاوز أهمية التعاون التقليدي وتبادل الخبرات في ذلك التجمع الجديد والذي يحتاج لنقاش غير تقليدي، وفي ذلك عدت إلى أبرز من أثار النقاش فيهما في قضية الفنون المصرية وعلاقتها بالعالم الخارجي، ولذا وجبت العودة مجدداً لشيخ النقاد د. محمد مندور، وهو يصيغ المعادلة المعاصرة صياغة جوهرية في كتابة الأدب ومذاهبه إذ أقدم تحديثاً لأهم أفكاره الأساسية وأحاول عرضها كي تراه يقول: "وفي هذا الصدد فإن عبارة الفن للفن قد اتخذت في عالم الفن وخلافاته عدة معان دخيلة على مدلوله التاريخي وانتشرت عبارة الفن للفن في عالمنا العربي، ودارت حولها ولا تزال معارك حامية". 



لقد ظن البعض أن الفن للفن معناه التحلل من قواعد الأخلاق في الإنتاج الفني، بل أسرف البعض في الظن حتى قال إن الفن للفن ينتهي إلى الفن الإباحي الذي يزعم أنه لا يهتم بغير الفن، سواء اتفق هذا الفن مع الأخلاق والمواضعات الاجتماعية أو تنافى معها. 

بينما يأتي الفريق الآخر وهم الأيديولوجيون وهم الملتزمون الذين يصدرون عن أفكار ذات أصل اشتراكي. 

وهم يرون أن الفن للفن معناه فصل الفن عن المجتمع وحبسه في الأبراج العاجية التي يتسكع فيها المترفون. ويطلب فيها من الفن نوعاً من البذخ والمتعة الرفيعة الخالصة. 

بدل من أن ينزل الفن إلى أسواق الحياة ليرصد ما فيها من محن وآلام ويعمل على علاجها وتخفيفها، وذلك في سياق يهتم بالدور الاجتماعي للفن، ولا يتركه للفئات المنعمة. 

هذا بينما يمكن رصد هجوم الأخلاقيين وأصحاب الرؤية الاجتماعية للفن المبالغ فيه من حيث تعسفهم، فقد حملوا مذهب الفن للفن أوزاراً لم تولد معه. فحقيقة الأمر أن مذهب الفن للفن لا يدعو للخروج على قواعد الأخلاق، بل ولا يتعرض للمشكلة الأخلاقية على الإطلاق. 

وعند دعاة الفن للفن قناعة مفادها أن أنواع النشاط الروحي المختلفة للإنسان لا تخضع جميعها لمقاييس الأخلاق، فالحقائق الرياضية مثلاً لا توصف بالخير أو الشر، وإنما توصف بالصحة أو الخطأ، وعلى هذا النحو قالوا إن الفن لا يحكم عليه من حيث الخير أو الشر، ولا من حيث الصحة أو الخطأ، وإنما يحكم عليه من حيث الجمال أو القبح، وهم من رهافة الحس بحيث يدركون ما في الشر من قبح، وإن لم يمنع ذلك من استقامة نظريتهم العامة القائلة بأنه إذا كانت هناك أقوال وأفعال أخلاقية "Moral"، ومن بينها الحقائق الرياضية أو الحقائق الجمالية". 

ولعل تلك الرؤية العميقة حقاً تحتاج إلى إعادة إطلاق، إذ شهدت مصر والوطن العربي نقاشات موسعة لعقود طويلة في هذا الصراع الفكري الإبداعي بين الفن للمجتمع والفن للفن. 

وإذ تبقى حيوية المجموعة في جمعها بين قوى الجنوب والشرق، إذ تبقى البرازيل بتجربتها الباهرة في استخدام الفن لصالح الفن والبيئة وتعزيز القيم الإنسانية لمقاومة الأزمات الاقتصادية تجربة نادرة وملهمة، أما روسيا فهي وريثة تجربة الفن كممارسة روحية، وصاحبة الاتجاهات الفكرية التاريخية الأكثر تأثيراً في علاقة الفن بالمجتمع، بينما تبقى نجاحات الهند في السينما وقدرتها على منافسة هوليوود، خاصة في أسواق الشرق أيضاً تجربة جديرة بالتأمل، مع حفاظها على خصوصية فنونها التقليدية وإعادة إنتاجها بقالب معاصر في معالجاتها ذات الطابع الخاص في السينما وفنون الأداء بشكل عام، هذا بالإضافة للحضور الصيني الكبير في مزج الفنون الشعبية التاريخية التقليدية بالتكنولوجيا المعاصرة، وإعادة إنتاجها بطريقة عملية تحافظ على نقلها من جيل لجيل مع طرحها للعالم بطريقة حديثة تستخدم التكنولوجيا دون التأثير على الطابع الأصيل، وفي فنون المسرح الصيني التراثي وفرقه التاريخية نموذجاً يجب تأمله جيداً. 

أما جنوب أفريقيا وحرصها على الهوية السمراء للجنوب وكونها أيقونة للنضال الإنساني والتحرر، وعلاقاتها الثقافية الإيجابية مع الثقافة الأنجلوساكسونية بقدر يحمل تفرد وحقوق الإنسان الأفريقي، وهذا التصالح السلمي الإيجابي الذي سمح للأغلبية السمراء بالوصول للحكم، وإتاحة الحياة للجميع بكل الحقوق، والقدرة على تجاوز التاريخ بالغ القسوة مع الأقلية البيضاء، فهو أمر يستحق التأمل أيضاً في مسألة التفاعل الثقافي وأثره على المكانة الإبداعية والثقافية، والتي حظيت بها كتعبير عن انتصار لثقافة السكان أصحاب الأرض وقدرتها على التفاعل مع الآخرين. 

كما أن حضور المملكة العربية السعودية وخطتها البارزة في مجال الصناعات الثقافية والإبداعية وهو ما يظهر جلياً في انفتاحها الثقافي والفني، وسعيها نحو دور مهم محوري في المجال الثقافي والفني في الوطن العربي، وتفاعلها مع نجوم الإبداع في مصر لهو أمر يستحق التأمل أيضاً، وكذلك حضور الإمارات العربية المتحدة وهي القوة الثقافية التي تمارس تعليم الفنون بشكل مؤسسي في مدارسها، وتحرص على التعليم الأكاديمي للفنون وتنافس بجدية في عالم مفتوح على الثقافات المتعددة، وهو النموذج الواضح في دبي المدينة العربية متعددة الجنسيات اقتصادياً وهو ما يخلق بالضرورة نوعاً من التعدد الثقافي، والإمكانيات الإيرانية والخبرات التاريخية لمخزون ثقافي شرقي يعود لحضارة فارسية قديمة والتزام عقائدي معاصر بالغ التأثير في التفسير الإسلامي للثقافة والعمق الحضاري. 

مع آمال دول من حوض النيل في التقدم والحضور الدولي ممثلاً في الحضور الإثيوبي الذي يحرص على أن يكون في مجموعة تضم في أبرز الأعضاء مصر التي ينازعها في حقوقها المائية، إلا أن حضور مصر التاريخي الثقافي وتأثيرها كبوابة لأفريقيا وكداعمة للثقافة في دول حوض النيل، وتأثيرها الرائد والمؤثر حتى الآن في عالمها العربي وعلاقاتها الثقافية المتعددة، وانفتاحها العميق التاريخي على كافة ثقافات العالم، وحضور الطاقات الإبداعية البشرية الكثيف القادر على الإبداع والإنجاز لهو أمر  حقاً يستحق التأمل وطرح الأسئلة حول قضايا تتجاوز سبل التعاون التقليدي، وتبادل الخبرات في المجال الثقافي والإبداعي. 

ألا وهي قضايا متصلة بالذائقة الفنية، وهي قضية الفن للفن أم الفن للمجتمع. 

جدير بالذكر أن البريكس كتجمع اقتصادي يخلق بالضرورة سوقاً كبيرة مشتركة يضم أربعين بالمئة من سكان العالم وهو سوق قابل للامتداد، وقادر على التعاون مع الأسواق الكبرى الأخرى. 

وهكذا يمكن إعادة النظر ثقافياً في مسألة تعدد الأقطاب في العالم، وهذه مسألة ذات صلة مباشرة بالجانب الاقتصادي، إذ إن الثقافة هي صانعة السلوك الإنساني والمؤثر المهم في عملية البيع والشراء، وفي أولويات البشر وطبيعة استهلاكهم اليومي لكافة المنتجات، وتعزيز أسواق كبرى باتت هي المستهلك لأول لما ينتجه القطب الواحد من سلع وأفكار وفنون وما إلى ذلك، في عصر الإنتاج الكبير.  فهل نعيد تأمل مسألة فنون التسلية ونموذج التلقي الأمريكي الأشهر المسيطر عبر تأويل غير صحيح لمسألة الفن للفن، هذا وقد قاومته أوروبا في مراكزها الكبرى في باريس ولندن وبرلين وروما في إطار الاعتزاز بالثقافة الأوربية المشتركة والثقافات الوطنية ولعل قوانين العرض السينمائي الفرنسي في دور العرض لتقليل تأثير هوليوود والذائقة الأمريكية في عولمة الصور السينمائية لهي أحد أبرز الأدلة على استشعار الفرنسيون لأهمية الخصوصية الفرنسية، وهو ما يجب تأمله في الشرق والجنوب، وفي مختلف دوائر العالم المنتج للثقافة، إذ إن تلك الذائقة الفنية في ارتداء الملابس وسماع الموسيقى ومشاهدة المسرح والسينما، وما إلى ذلك لهي ذائقة استطاعت الانتصار للثقافة الأمريكية وتأكيد طابعها، وإعادة إنتاجه في الفنون القومية، وسهولة انتشاره حول العالم جاءت مع حضور العولمة كأمر واقع وحتمي للتطور المذهل في السفر والعلم والإبداع في عالم هو قرية واحدة. 

هل تنحاز إنتاجات الفنون التعبيرية لحساسية الشرق والجنوب في رؤية الفنون ولحساسيته وخصوصيته في طرح القضايا الأخلاقية والوطنية والجمالية. 

إن علم الجمال يؤكد خصوصية واختلاف حساسية الشرق والجنوب في تلقي الفنون وإنتاجها، وهو ما يحتاج لأشكال فنية جديدة وإبداعات مختلفة تدمج قيماً جمالية ومعرفية كادت أن تندثر، وتفتح آفاقاً لأسواق جديدة لفنون معاصرة تعزز تعدد قوى العالم المعاصر، وتسهم في خطابات ثقافية تعزز التنوع الثقافي وتحافظ على رؤى مختلفة للوجود الإنساني، وفي ذلك ليس انقطاعاً مع الصور الهوليودية البارعة ولا الإيقاع السريع للفنون الممتعة التي تعبر عن الحلم الأمريكي في قالب غربي معولم، بل التواصل معها والتأثير فيها وطرح التنوع الثقافي، حفاظاً على الذائقة الفنية من سهولة الاستهلاك الكبير القائم على فنون التسلية، وحلا معاصراً لمغالاة المنحازين للفن للفن، أو المنحازين للفن من أجل المجتمع معاً. 

فرص كبرى ثقافية وإبداعية تطرحها آفاق التعاون الثقافي في مجموعة البريكس.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز