د. حسام عطا
كرنفال العتبة التجريبي .. والقاهرة الخديوية
أثناء متابعتي لفعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وجدت نفسي أكرر ذهابي للمسرح القومي ولمسرح الطليعة بميدان العتبة، ورغم الاعتياد على الزحام والضجة والباعة الجائلين، وحالة التسوق غرائبية الطابع والتي يعرف المصريون أنها حالة خاصة من فوضى هي في جوهرها نظام معين وهي حالة آمنة رغم خشونة المركبات الكبرى والصغرى المتعددة، ورغم صعوبة السير فيها، ورغم ضجة الأصوات المتداخلة المختلطة يعرف المصريون سرها، وهى حالة نادرة من البيع والشراء تستحق الدراسة والتأمل.
فكيف يتم التسوق في أكبر سوق شعبي بميدان العتبة، وهو سوق له نظام ومعايير خاصة يندر تكرارها في أي مكان، أنها ألفة خاصة للزحام والضجيج، مع توافر كل أنواع السلع الصغيرة والنادرة والكبيرة، يمارس المصريون في هذا السوق الشعبي الكبير متعة ما ربما هي متعة التجمع البشري والتوتر الآمن والحديث بصوت مرتفع بل والصراخ، حتى يسمع بعضهم البعض.
سوق كبير يصل إلى حد الهيستريا اليومية، وهي نوع حاد جداً من كرنفالات واحتفالات شعبية ففي السوق الشعبي الأسبوعي في الريف المصري في مراكز المدن يحدث هذا التجمع البشري النادر، وفيه كان يحضر الحواة وفرق المحبظين الجوالة من الممثلين الفقراء، وعدد من أصحاب السيرك الشعبي الذين يمزجونه بالغناء والرقص أحياناً، في بهجة متوترة هي بهجة السوق الشعبي والتجمع البشري الكبير.
إنها أيضاً متعة الإنفاق وهي غريزة بشرية، وفي العتبة تتحقق المتعتان ويتم تفعيل الغريزتين معاً الأولى هي التجمع البشري الحر، والثانية هي الإنفاق وهو إنفاق بشري شعبي محدود لكنه يحقق لسوق العتبة الكبير إيرادات كبرى. ولهذا السبب يستطيع هذا السوق أن يبقى رغم كل المحاولات لحلحلته وإبداله بسوق حضاري كبير. وقد نجحت محاولات الدولة مع أسواق مشابهة وأبرزها سوق روض الفرج والذي انتقل لسوق حضاري جديد بعيداً عن الزحام.
ولما كانت النجمة رانيا فريد شوقي وهي تقدم مسرحيتها الأخيرة بالقومي قبل دخول المهرجان القومي ثم التجريبي على انتظام الموسم المسرحي الصيفي، قد أثارت موضوع العتبة والمسرح القومي والضجيج أمامه بحساسية الدهشة والرقة معاً، إذ أنها دعت للحفاظ على أرزاق الناس وتنظيمها ونقلها إلى سوق كبير حقيقي بعيداً عن قلب القاهرة الخديوية الذي كان أنيقاً جداً قبل كل هذا الزحام.
ثم ذهبت الدعوة والمبادرة الجديدة القديمة معاً لرانيا أبنة وحش الشاشة بطل فيلم الفتوة الذي حلل عالم السوق ومتعته وعناصره برؤية الكبير صلاح أبو سيف، أدراج الرياح، وقد كتبت على صفحتها الشخصية أنها قد حاورت د. أحمد فراد هنو وزير الثقافة في هذه المسألة عند زيارته للمسرح القومي ومنطقة المسارح هناك، وهما الطليعة والعرائس اللذان يقعان في قلب الضجة والزحام.
وهي الزيارة التي حرص فيها د. أحمد هنو أن يترجل على الأقدام ويبدو بلا حراسة واضحة وحقاً سوق العتبة كرنفال مصري آمن جداً محمي للغاية بالمصريين الشعبيين الطيبين.
وبالتأكيد بحرص بالغ وإنجاز واضح للشرطة المصرية، التي تقدم ببراعة الأمن وسط كل هذه الملايين التي تذهب للمشاركة يومياً صباحاً ومساءً في كرنفال العتبة الصاخب. أعرف كل هذا إلا أن ما أعرفه هو مصدر دهشتي أيضاً، لأنني لا أسطيع أن أجد أسباباً لتأجيل عودة تلك المنطقة مجدداً إلى صورتها الحضارية ولا أستطيع أن أفسر دهشة ضيوف المهرجان المسرحي الدولي من الأجانب والعرب حول العالم وتوترهم وشعورهم بالخطر وبأنهم مروا بمغامرة كبرى للعبور نحو مسرح الطليعة والمسرح القومي لمشاهدة عروض المهرجان، وبعضهم بدا متوتراً جداً مندهشاً ودخل في حالة خاصة، وبعضهم سألني كيف كل هذا الزحام؟
ولذلك فربما يمكن إخراج المسرح القومي ومسرح الطليعة ومسرح القاهرة للعرائس من خريطة المهرجانات الدولية، والاكتفاء بمسارح منطقة الجزيرة والعجوزة والنظر قليلاً نحو مسارح المدن الجديدة في القاهرة الجديدة، وهى متوفرة ومتعددة ويجب وضعها على خريطة العمل المسرحي الجماهيري في مصر، وذلك لحين حل مشكلة مسارح منطقة العتبة، والتي نعرف سرها كمصريين ونقدر على التعامل معها، ولكنها غريبة ومدهشة جداً للزوار الأجانب بل وهى مغامرة خطرة للبعض منهم من وجهة نظرهم.
ولكن ما جدد اهتمامي لمسارح القاهرة الخديوية، هو خلو شارع المسارح عماد الدين منها بالتدريج، مع إغلاق نسبي لدور العرض السينمائي في الشارع التاريخي الشهير لا يزال ملاك مسرح الريحاني يحافظون عليه ولا زالت مساحات ممكنة ومتاحة لعودة المسارح بهذا الشارع وامتداداته. وهى منطقة المسارح التاريخية بالقاهرة الخديوية، ويمكن البدء بتطوير دور العرض السينمائي كي تصلح للعمل المسرحي والغنائي والسينمائي معاً، وتجريم هدمها والحفاظ عليها رغم كل ما تم إهداره منها للأسف بالمخالفة للقانون عبر سنوات طويلة ماضية.
أما ما حفزني حقاً لكتابة هذا الموضوع هو ذلك الكتاب الرائع للصديق الصعيدي الأستاذ والباحث والمؤلف والمحاضر والمدرب والمخرج المصري د. محمود أبو دومة والذي أرسله على عنواني البريدي مع إهداء رقيق يليق بهذا الجيل وهؤلاء المبدعين منه والذين منحوا أعمارهم للمسرح كعمل روحي إبداعي رفيع المستوى، وفي قلب الثقافة الوطنية، وبينما أتممت قراءة الكتاب في جلستين متتاليتين لأنه كتاب ممتع وعميق في سطوره المضيئة وهو كتاب مشاهدات من المسرح الإنجليزي، لاحظت فكرة ملحة تؤرق د. محمود أبو دومة وهو لم يلبث يروجها في بدايات الكتاب ومتنه، وهو حديثه عن منطقة "وست إند" في لندن والتي تحتوي ما يقرب من تسعة وثلاثين مسرحاً، وحديثه عن أحد شوارعها الشهيرة، وهو شارع شافتسيري، وهو الشارع الذي يضم ستة مسارح بمفرده هكذا كان شارع عماد الدين وكانت منطقة وسط القاهرة التاريخية، وهكذا يجب أن تعود.
وعن "west end" في الطرف الغربي من المدينة يحكي أبو دومة على متعته هناك ويذكرنا بمنطقة المسارح في القاهرة الخديوية ليحاول تحفيز الاهتمام المصري، إذ يذكر أنها وهى منطقة المسارح المحترفة الإنجليزية تعد أحد مصادر الدخل القومي الإنجليزي ويذكر إحصائية جديدة في كتابه عن حي "ويست إند" ترصد دخل شبابيك التذاكر في هذا الحي بمبلغ 799 مليون جنيه استرليني، وهو الإحصاء الذي أجرته جمعية مسارح لندن عام 2019 ولذلك فالمسرح الإنجليزي صناعة ثقيلة، وهكذا كان المسرح المصري ويجب أن يعود، كما يجب حقاً عودة منطقة الأزبكية والعتبة ونتمنى أن تشهد الدورة القادمة بضيوفنا من كل مكان حول العالم هذه المنطقة المهمة التي يوجد بها مسرحنا القومي تغيراً جوهرياً وفي هذا الاهتمام كان ولا يزال مشروع تطوير القاهرة الخديوية ضرورة مهمة تنتظر الإرادة السياسية المصرية القادرة.