وليد طوغان
عندما كسر الرئيس التركى البروتوكول ترحيبا بالرئيس السيسى
مكاسب زيارة الـ 6 ساعات
زيارة تاريخية ومكاسب كثيرة.
تركيا فى حاجة ماسة إلى مصر. مصر فى المقابل دولة محورية. أو هى الدولة الأكبر محورية فى الإقليم والمنطقة.
صححت تركيا موقفها بعد سنوات من علاقات شابها الجليد. ساهمت الدبلوماسية المصرية فى إعادة التعاون مع أنقرة، بينما لم تتغير حساسيات القاهرة.. ولم تتراجع.
لدى البلدين مصالح كبرى فى المنطقة.
ولدى المنطقة مزيد من التعقيدات فى إقليم ملتهب مشتعل كما لو أنه يسير على جمر.
عادت تركيا للقاهرة، إدراكًا لقيمة الدولة المصرية، وفتح البلدان آفاقًا كبرى للتعاون، تدعم المصالح وتدعم الاستقرار.
قبل نحو عام من الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس العلاقات الدبلوماسية، جاءت زيارة الرئيس السيسي التاريخية إلى العاصمة أنقرة، بعد أشهر من زيارة أردوغان إلى القاهرة، لتذيب الجليد حول مستقبل العلاقات، التي تأثرت كثيرًا بالتحولات الجيوسياسية فى المنطقة.
(1)
للآن وبعد أيام من الزيارة، مازالت أصداؤها تتواصل فى الصحافة التركية وعلى مواقع التواصل، وخصوصًا أنه خلال الزيارة بدا كثير من المشاهد غير المسبوقة الجاذبة للانتباه.
أول ما جذب انتباه الأتراك، كانت تحية الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذي خاطب فيها حرس الشرف فى المطار بكلمة «شكرًا» بعد أن كان المعتاد طوال أكثر من 114 عامًا مخاطبته بكلمة «مرحبًا».
تحية حرس الشرف التركى معتادة، أقرها كمال أتاتورك، وأصبحت فى العرف التركى واحدة من صيغ الاعتياد لكل ضيف أجنبى كبير.
شكر الرئيس السيسي الحرس فى لفتة غيّر فيها العبارات لأول مرة، وفى سابقة أولى أثارت الكثير من الالتفات على مواقع التواصل وفى الشارع التركى.
الزيارة تاريخية، وما أحاط بها من مظاهر استقبال وحفاوة كانت تاريخية أيضًا. تداولت مواقع التواصل التركية باضطراد استقبال الرئيس أردوغان لرئيس الدولة المصرية على باب الطائرة، وتوديعه بنفس الطريقة فى كسر ظاهر للبروتوكول قصده الرئيس التركى فى إشارة إلى عمق الرغبة التركية لإبداء مزيد من الترحيب والحفاوة بالرئيس عبدالفتاح السيسي.. رئيس الدولة المصرية.
(2)
صحيح السياسة متغيرة.. والظروف على خرائط المنطقة متشابكة وشديدة التعقيد، لكن منطلقات القاهرة لا تتغير، ورؤاها بالنسبة للتعاطى مع القضايا المختلفة لا تتبدل هى الأخرى.
تأتى تبدلات السياسة من التبدل فى وجهات النظر وتغييرها حسب المصالح وحسب الظروف.
لكن منطلقات القاهرة ثاتبة، لأن مصر تعمل منطلقة من ثوابت رشيدة تحركها مبادئ أخلاقية واعتبارات طبيعية وصيغ تحترم القانون.. وتحترم رغبات الدول الأخرى فى تحقيق مصالحها أيضًا.
لكن لا تتهاون مصر فى مواجهة الطموحات غير القانونية.. ولا الطموحات الموهومة التي يمكن أن تتخيل أنها يمكن أن تعبث بالأمن القومى المصري وأبعاده الاستراتيجية.. على سياقاتها المختلفة.
لذلك فإنه لدى القاهرة بالدوام خطوط حمراء.
لكن الخطوط الحمراء هذه، لا تمنع أبدًا رغبات التعاون ولا التوافق. فى نفس الوقت، تظل الخطوط المصرية الحمراء حائطًا منيعًا تجاه أى تهديدات للمصالح العليا والأمن القومى وأبعاد الأمن الاستراتيجى كما تراه مصر وتحسبه.
هناك فى أنقرة، تكلم رئيس الدولة المصرية عن رؤى القاهرة تجاه عدة قضايا منها المشكلة الليبية، وحول الحلول المقترحة للأزمة فى غزة، إضافة إلى رؤى القاهرة لقضايا وأزمات الإقليم.
فى الصحف التركية، كتب محللون عن الزيارة باعتبارها إشارة إلى أن المنطقة بدأ إعادة تصميمها من خلال التقارب بين الزعيمين الكبيرين.. عبدالفتاح السيسي وأردوغان، اللذين جلسا على طاولة واحدة، ليبدءا عصرًا جديدًا ليس فقط فى العلاقات بين البلدين، إنما بالنسبة للتوافق فى الرؤى حول قضايا المنطقة كلها.
فى جريدة «جازتيه دوار»، كتب «طاش تاكين» وهو المحلل السياسى القريب من القصر الجمهورى فى أنقرة، عن أن ما وصفه بالسعى التركى للتطبيع مع مصر هو على قدر عال من الأهمية بالنسبة لتركيا لعدة أسباب، أولها تعطيل معادلة الطاقة فى شرق المتوسط بالنسبة لأنقرة.
قال تاكين: إن المعادلة فى شرق المتوسط، تطورت لصالح قبرص واليونان، ما يعنى أن الحظوظ فى النجاح لم تحالف أنقرة فيما يتعلق باتفاق الصلاحية الذي وقعته تركيا مع حكومة طرابلس.
الاتفاق التركى مع طرابلس، غير أنه صٌّنف من دول الإقليم بأنه غير قانونى، فإنه كان من جانب القاهرة من الاتفاقات التي لابد من النظر إليه بعين عدم الارتياح والريبة.
أحبط هذا الاتفاق رشد القاهرة وصبرها بعد خطوط حمراء رسمتها فى ليبيا، كما أحبطته الأذرع الدبلوماسية القوية لكل من القاهرة واليونان وقبرص.
فى الوقت الحالى، لا تمانع مصر من مساعدة تركيا، مع التوافق على ضرورة إصلاح الوضع الداخلى فى ليبيا وفق قواعد الشرعية، ووفق الحفاظ على الأمن الاستراتيجى لمصر، ووفق اتفاقات لا تثير الجدل، ولا تتخطى حدود حق الدولة المصرية فى الحفاظ على أمنها القومى.
الوضع معقد الآن فى ليبيا، أو بالأحرى هو يزداد تعقيدًا من آن لآخر.
تتغير المعادلات سريعًا على الأرض فى ليبيا، لكن الأوضاع لابد لها من سكون فى نهاية الأمر. وحتى يتأتى السكون السياسى الصحي، فإنه يمكن التوافق المصري التركى حول المصالح «دون رفع الصوت» كما كتب طاش تاكين.
الآن.. تُدرك أنقرة جيدًا، أو أصبحت على يقين بأن الاتفاقيات الاستراتيجية التي وقَّعتها مع الحكومات الانتقالية فى طرابلس ليس لها مستقبل إلا بعد إنهاء الانقسام فى ليبيا وإقامة إدارة مشتركة، وفى إطار توافق مع الإرادة المصرية.. ومن خلال منطلقات مصر السياسية.
مصر من جانبها، لم تتغير حساباتها وحساسياتها فى الملف الليبى، رؤيتها تبدأ الحلول من إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ثم ضمان الأمن مع خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد.
(3)
لعل ما تضمنه الإعلان المشترك من تعزيز التعاون بين السلطات المعنية للطرفين بهدف مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله وصوره، ومكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود بما فى ذلك تهريب المهاجرين غير الشرعيين والاتجار بالبشر وتجارة المخدرات، ينعكس بالضرورة على أمن واستقرار البلدين.. ويضيف إلى معادلة دفع المنطقة إلى الاستقرار. وفى الملفات الإقليمية التي دار النقاش حولها فى زيارة الست ساعات، كانت عدة بنود لصالح فلسطين والوضع فى غزة والضفة الغربية.
ثمنت أنقرة العمل المصري وجهودها الرفيعة لإيقاف إطلاق النار فورًا، وتدفق المساعدات إلى غزة دون انقطاع.
هناك إمكانية للتنسيق الكامل الآن لتعزيز مستوى التعاون بين أنقرة والقاهرة لدعم الجهود وحشد المزيد منها للتعامل مع الوضع الإنسانى فى غزة.
فالشعب الفلسطينى يتعرض لكارثة إنسانية غير مسبوقة. والاعتداءات الإسرائيلية فاقت الوحشية وارتقت إلى جرائم الحرب بامتياز. فتحت إسرائيل عدة جبهات فى نفس الوقت فى صورة تعكس مدى التهور والخوف من السلام والهروب من المشاكل إلى الجحيم.
بانتهاء الحرب وتوقفها، وهى لابد أن تتوقف، سينزل قادة الحرب فى إسرائيل إلى النفق المظلم حيث لا حياة ولا ممات.
هناك فى إسرائيل شخصيات مأزومة، تعمل على إنقاذ نفسها من الرمضاء بالنار. والنار الإسرائيلية تحاول أن تدفع المنطقة كلها إلى تحديات غير مسبوقة، لا تهدد الأمن والاستقرار فقط، إنما تُساهم فى طمس معالم الخريطة القديمة لصالح خرائط أخرى موهومة فى أذهان مجانين.
يُشير التاريخ دائمًا إلى أن مصر تقف فى الجانب الأكثر قدرة على فهم الأمور والأكثر قدرة على التعاطى الناجز الفعّال مع القضية الفلسطينية.
والوضع فى المنطقة على هذه الصورة وبهذا الشكل الحالى، ساهم بصورة كبيرة فى إعادة ترتيب الأوراق بين القاهرة وأنقرة.
صحيح كان فى الأفق بعض الخلافات فى عدد من الملفات، لكن تركيا من جانبها، أثرت التراجع تقربًا من مصر، فى مرحلة شديدة التعقيد، تطابقت فيها وجهات النظر بشأن الأوضاع فى غزة، وتعلن أنقرة دعمها للرؤية المصرية التي تدفع فى اتجاه ضرورة وقف الحرب ودعم حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة.
(4)
مصر وتركيا بلدان كبيران وهما المؤثران الأكبر فى محيطهما الإقليمى.
لا تخدم الخلافات السياسية مصالح الدولتين، بينما فى المقابل يمهد التوافق بينهما للكثير من الفرص للتعاون فى عدة مجالات.
غير المكاسب السياسية، فإن كثيرًا من بشائر الخير اعتبرت ضمن تداعيات زيارة الست ساعات.
من بشائر الخير، توقيع عقود للمناطق الصناعية بأكتوبر والعاصمة الإدارية على مساحة إجمالية تقترب من 5 ملايين متر، بقرابة 30 ألف فرصة عمل، وبما يزيد على 4 مليارات دولار استثمارات.
الاتفاق على زيادة حجم التجارة البينية من 10 إلى 15 مليار دولار سنويًا بشرة خير أخرى، تضاف إلى أكثر من 16 اتفاقية فى مجالات مختلفة.
تركيا أكبر مستقبل للصادرات المصرية خلال عام 2023 ومن أهم الشركاء التجاريين لمصر.
تركيا أيضًا سوق واسع لاستيراد المنتجات الكيماوية والأسمدة من مصر، إضافة إلى مواد البناء، والغزل والمنسوجات، والسلع الهندسية والإلكترونية والملابس الجاهزة، والحاصلات الزراعية.
زيارة رئيس الدولة المصرية لأنقرة، على سياقات مختلفة، هى قفزة نوعية للعلاقات، وخطوة هائلة لتعزيز التعاون بالمزيد من التطور بين البلدين الذي بدا ملحوظًا بتسارع فى الفترة الأخيرة.
دعوة الرئيس التركى لرئيس الدولة المصرية إشارة واضحة على الرغبة التركية فى ترفيع العلاقات مع مصر لأعلى المستويات.. وتوثيق التعاون.
الزيارة على قدر كبير من الأهمية، جرى الإعداد الجيد لها، فى توقيت يحمل الكثير، فى إقليم تتزايد فيه حالات الاضطراب كل ساعة.
التقاء مصر وتركيا بتماس فى التوافق فى الرؤى، يعنى ارتفاع سقف التوقعات فيما يتعلق بخفض التوتر فى النقاط الملتهبة فى الإقليم، لما لمصر وتركيا من تداخلات وتقاطعات مع كل خطوط الأزمات المزمنة فى المحيط.
أكدت الزيارة مبدأ أنه لا استقرار بلا مصر .. ولا حلول لقضايا الإقليم .. من غير مصر أو بعيدًا عنها.
نقلاً عن مجلة صباح الخير