محمد بغدادى
حلمي التوني .. كم كنت جميلًا
كان حلمى التونى ملء السمع والبصر، حين التقيته أول مرة، وكانت رسومه البسيطة المعبرة عن هوية بصرية مصرية تفرض وجودها البهى داخل صالات العديد من المعارض الخاصة بانتظام.
كنا فى نهاية الثمانينيات عندما شكَّل الكاتب الكبير سعد الدين وهبة لجنة للتحكيم فى مسابقة لرسوم الأطفال العرب التي أطلقها الأستاذ سعد من موقعه كرئيس لاتحاد الفنانين العرب، وكانت اللجنة تضم فى عضويتها الفنان حلمى التونى، والفنانة منى أبوالنصر، والكاتبة فاطمة المعدول.
وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة، امتدت بنا الساعات وبضعة أيام لإنهاء أعمال اللجنة، وأذهلتنى بساطته، ورقيه وتواضعه، وخفة ظله، وإن كانت هيئته عن بعد توحى لمن لا يعرفه بغير ذلك.
تبادلنا التليفونات وتهاتفنا على مدى أيام متتالية على أمل أن أجرى معه حوارًا صحفيًا لأنشره بمجلة "صباح الخير"، وكان قد أبدى اهتمامًا وإعجابًا بحوار نشر لى مع الفنان حسين بيكار فى عيد ميلاده الخامس والسبعين، وكان يرد على ضاحكا كلما حاولت أن أحدد معه موعدًا لإجراء الحوار: "لما يبقى عندى خمسة وسبعين سنة زى بيكار".
ومرت الأيام بسرعة، إلى أن جمعتنا الظروف مرة أخرى فى ألمانيا فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب عندما كانت الثقافة العربية ضيف شرف المعرض عام 2004، وكان الفنان حلمى التونى منساقًا عامًا لمعرض رسوم كتب الأطفال لكبار الفنانين العرب، وكنت المنسق العام لمعرض الخط العربى، وكان معنا الفنان محسن شعلان منسقا لمعرض الفنون التشكيلية، ود.نوال المسيرى منسق لمعرض الحرف التقليدية، والفنانة ميرفت عزمى منسق لمعرض الصور الفوتوغرافية.
وحدث أن سافرنا نحن مجموعة المنسقين قبل افتتاح المعرض بأسبوع لنباشر مهام عملنا، وكانت فرصة ذهبية لأن نقترب أكثر وتذوب المسافات بيننا وتمتد السهرات لمنتصف الليل ونحن نتحدث فى كل شئ يخطر على بال بشر، عادت هذه المجموعة لتكون ما أسميناه "جروب فرانكفورت"، وأصبح لنا لقاءات دورية نجتمع خلالها فى بيت أحدنا كل شهر.
خلال تلك الفترة اقتحمت صومعة الفنان حلمى التونى فى مرسمه بالزمالك، وسجلت معه أطول حوار نشر فى مجلة "صباح الخير"، قال فيه ما لم يقله من قبل، وخصنى بأسرار أعتقد أنه لم يبح بها لأحد غيرى، بعضها نشر في حينه، وبعضها ينشر هنا لأول مرة.
قال حلمى التونى: لم أكن فتى مدللا رغم أن عائلتى تنتمى لأصول أرستقراطية، فقررت أن أذهب إلى كلية الفنون الجميلة يوميًا بدراجة أشتريتها خصيصًا لهذه الرحلة اليومية من مصر الجديدة حتى الزمالك، فقد كرهت المترو والأتوبيسات، وكانت التكسيات مكلفة. تابع التوني، قائلًا: جدى لأمى هو "إسماعيل صديق باشا المفتش"، وهو وزير المالية المقرب من الخديوي إسماعيل، فقد كان أخوه فى الرضاعة، وهو أحد الشخصيات المصرية الوطنية، ولا يدرى أحد ظروف وفاته فقد تعددت الروايات، ولكنها تجمع على أن الخديوي إسماعيل تخلص منه فى ظروف غامضة، وقتل فى ظروف أكثر غموضًا بعد أن قرر نفيه إلى دنقلة، ولكنه قتل على ظهر السفينة التي كانت تقله قرب منطقة حلوان، والقيت جثته فى النيل.
كان الفنان حلمى التونى يحكى لى هذه الحكاية الذي توارثها عن جدته لأمه كما لو أنها من حكايات ألف ليلة وليلة وكأنها لا تخص جد والدته، كنا نتحدثن أسأله وهو يجيب، ونحن نتجول فى مرسمه، لأرى عددًا كبيرًا من اللوحات، فهو يواظب على الرسم يوميا بشكل منتظم، ولديه خزانة أنيقة مصممة خصيصا لحفظ اللوحات المتراكمة، تستطيع من خلالها ان تفر اللوحات وكأنها صفحات فى كتاب، أو تشاهد ألبوم صور فى كتالوج ضخم، قلت له: ماشاءالله لديك كم هائل من الأعمال الفنية يا عم حلمى، وكأنك نجيب محفوظ التصوير، ترسم بانتظام ولديك أنتاج غزير، قالى حلمى التونى: لولا عملى فى مجال الرسوم الصحفية، وأغلفة الكتب، ورسوم الأطفال لكان لدى الآن أضعاف أضعاف تلك اللوحات، قلت له هل ندمت على عملك فى دار الهلال كرسام صحفى، قال لى بالعكس كانت بالنسبة لى كسنوات الدراسة، وكأنك فى تدريبات متواصلة للرسوم اليومية السريعة المطلوبة فورا.
وفى دار الهلال زدت وعيا وعمقا وثقافةً، عملت مع العمالقة، وزاملت مفكرين ورجال سياسة وجال دولة، كنت أعمل مع الأخوين على ومصطفى أمين، وكان وقتها رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير المصور الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وكنت قريبا جدا من على ومصطفى أمين، وفى حركت تغيرات صحفية صدر قرار بعودتهما لدار أخبار اليوم، فقالا لى ستكون معنا حيث جريدة الأخبار اليومية، فتنشر رسومك يوميا ليشاهدها آلاف القراء، وفرحت جدا، وقلت لهم هل أطلب نقلى لأخبار اليوم فقالا لى، قدم استقالتك وقرار تعينك جاهز بضعف مرتبك هنا، فما كان منى إلا أن كتبت استقالة بسرعة وتوجهت لمكتب الأستاذ بهاء وقدمتها له، قرأها بهدوء وقال لى: فعلا أنت متأكد من أنك تريد أن تترك دار الهلال و تذهب إلى أخبار اليوم!! فقلت له: متأكد جدا. فأخذ الاستقالة، ووضعها فى درج مكتبه قائلا: وأنا قبلت أستقالتك لك مطلق الحرية فى الذهاب إلى حيث شئت. وخرجت مذهولا!! هل وافق بهذه البساطة دون أى اعتراض!!، وبعد قليل جاء صديقى وزميلى الفنان بهجت عثمان رسام الكاريكاتير إلى مكتبى غاضبا ومنزعجا وقال لى: إيه اللى عملته ده ياحلمى !! حد يسيب أحمد بهاء الدين، ويروح مع على ومصطفى أمين!!،
قلت له: فيها إيه أنا رايح جريدة يومية أكثر انتشارا ومساحات الإبداع أوسع وأسرع، عاد إليَّ بهجت بعد قليل قائلا: أنت فاضى الليلة، سألته: أه، ليه !!، قال: خلاص تعالى معايا عازمك على سهرة ثقافية عظيمة. وفى المساء وجدت نفسى فى منزل الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومجموعة كبيرة من كبار الكتاب والمفكرين فى ضيافة الاستاذ هيكل، وأحمد بهاء الدين، وكامل زهيرى، وإحسان عبدالقدوس، وغيرهم كثيرون، تحدثوا كثيرا وكنت تقريبا المستمع الوحيد الذي لم يفتح فمه طوال السهرة الممتعة، يومها أدركت الخطأ الذي نبهنى إليه صديقى بهجت عثمان، وعرفت قيمة الأستاذ أحمد بهاء الدين عن قرب، وفى الصباح توجهت إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة، وطلبت منه أن أسحب استقالتي، ففتح درج مكتبه بهدوء وناولنى الاستقالة، فسألته هلى كنت تعلم إننى سأعود لأسترد استقالتي، فقال لى: نعم؛ لهذا لم أرسلها إلى شؤون العاملين لاتخاذ إجراءات إنهاء خدمتك بدار الهلال.
وبعد هذه الواقعة تغيرت حياتى مائة وثمانين درجة، واقتربت كثيرا من أحمد بهاء الدين الكاتب والمثقف الوطني والمفكر العربى الكبير، وبعدها أدركت إننى كنت حمارا قبل ان أتعرف على الأستاذ بهاء، فعملت معه فترة ليست بالقليلة تعلمت خلالها الكثير، كانت تجربة حلمى التونى كمستشار فنى بدار الهلال غنية وثرية و أضفت على مجلة المصور ومجلة وكتاب الهلال الشهرى طابعا فريدا ومتميزا فقد كانت لمساته الفنية الرشيقة، ورسومه الصحفية المصاحبة لموضوعات المجلة قد أحدثت نقلة نوعية فى مجال الرسوم الصحفية على مستوى كل المجلات العربية آنذاك، ساهم حلمى التونى فى رواج مطبوعات دار الهلال مع أحمد بهاء الدين وأصبح لمجلة المصور طابعا خاصا.
قال لى التونى ونحن فى مرسمة نتناول القهوة للمرة الثانية: "قضيت سنوات ممتعة فى دار الهلال إلى أن غادرت مصر إلى بيروت وعملت بجريدة السفير اللبنانية، وانتشرت أعمالى كمصمم لأغلفة الكتب لعدد كبير من دور النشر اللبنانية، خاصة بعد أن نقلت دار الشروق جزءا كبيرا من نشاطها إلى لبنان فى فترة حكم الرئيس السادات، بعد أن ضاق الخناق على المعارضة داخل مصر، وهناك ساهمت فى العمل بدار الفتى العربى لكتب الأطفال التي أسسها أبو جهاد خليل الوزير أحد أبرز قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وكان يشرف عليها الكاتب المثقف محجوب عمر أو "رؤف نظمى"، والكاتبة حسناء بكداش، وشاركت كبار الرسامين العتاولة فى تأسيس فكر جديد وهوية بصرية جديدة لثقافة الطفل العربى مع نخبة العظماء الأوائل كتاب ورسامين منهم أحمد حجازى، محيى الدين اللباد، بهجت عثمان، نبيل تاج، زكريا تامر، وصنع الله إبراهيم، وغيرهم كثيرون.
وعندما عاد التونى إلى مصر بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، وأنهارت كل المؤسسات الصحفية ودور النشر العربية التي أحدثت حالة من الوهج الثقافى والفنى والإبداعى ليس فى لبنان وحدها ولكن امتد أثرها لعدد كبير من العواصم العربية آنذاك. عاد التونى ليتفرغ للتصوير وايقاع العمل الصحفى اليومى منحه طاقة خلاقة مكنته من الانتاج الغزير، فكان له أكثر من ثلاثة او أربعة معارض سنويا، وكان الأكثر مبيعا، لأنه كان الأكثر بساطة ووعيا بدور الفن التشكيلي، فقد قدم لوحة مصرية بطابع شعبى متميز، واستلهم من تراثنا الشعبيى مفردات وعناصر لوحاته، و حرص على ان تكون ذات ألوان صريحة وجذابة، فأحدث حالة فنية أشبه بالقصيدة الغنائية، ابتعد اتونى عن الغموض والتنظير، وقدم للمتلقى لوحة مصرية معبرة عن هوية بصرية مصرية واضحة المعالم، قريبة من الروح المصرية المتدفقة بالحيوية والحضور البهى، عاش حلمى التونى بيننا مخلصا لمشروعه الفنى، معبرا عن ذاته الطواقة للبساطة والوضوح وخفة الظل، احترم شوق الناس للبساطة المصرية والروح المصرية، فأحبه كل الناس وأقبلوا على أعماله بحب وألفة، إنه حلمى التونى الذي أثرى حياتنا بفنه الجميل، كمصور ومصمم أغلفة، ورسام لكتب الأطفال، عاش مفتونا بالجمال، ورحل فى صمت النبلاء، كم كنت جميلا يا عم حلمى.