فن الدبلوماسية.. بين الدبلوماسية الإدارية والدبلوماسية الاقتصادية

تبقَى ثوابتُ فنِّ الدبلوماسيَّة هي أحَد أعمدة النَّجاح والتميُّز، سواء على مستوى البعثات الخارجيَّة أو على مستوى مركز الوزارة وبقيَّة الوحدات والجهات الحكوميَّة وأخرى، حيث كانت سابقًا تركِّز كثيرًا على الجوانب السياسيَّة مستندةً إلى العلاقات الدوليَّة والنظريَّات الأيديولوجيَّة السياسيَّة، وخصوصًا بَيْنَ الغرب والشَّرق إلى أن ظهرت حركة عدم الانحياز كحلٍّ وسطٍ بَيْنَ القطبَيْنِ الغربي الَّذي تترأَّسه الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، والشرقي الاتِّحاد السوفيتي ـ آنذاك.

 

 

تحوَّلت التوَجُّهات المركزيَّة من السياسة إلى الهيمنة الاقتصاديَّة والَّتي تفرض نَفْسَها بقوَّة على سياسة وتحرُّكات وسِمات الدَّولة، وقد بدأت الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة في نهاية القرن الماضي تؤدِّي دَوْرًا جوهريًّا في وضْعِ ورسْمِ هُوِيَّة وقوَّة ورصانة الدَّولة داخل حدودها أو خارجها، وبدأت المدارس الدبلوماسيَّة المتخصِّصة وبعض الجامعات البريطانيَّة العريقة بتحليل ودراسة نقاط القوَّة والضَّعف في مجال الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة الَّتي ترفد ميزانيَّة وخزينة الدَّولة بأعلى مستويات الموارد الاقتصاديَّة وبمختلف تفرُّعاتها، ومن أهمِّ سِماتها هي التسلُّح بمفاهيم البروتوكول والإتيكيت الحكومي النموذجي؛ لكَيْ يكُونَ الشَّخص الَّذي يشغل منصبًا ما بمختلف المُسمَّيات والوظائف والمسؤول عن الملف الاقتصادي أن يتحلَّى ويتسلَّحَ بأهمِّ المفردات الرَّاقية، والَّتي تُعَدُّ مغناطيس لجلبِ رؤوس الأموال من خلال اللقاءات الجانبيَّة الشَّخصيَّة مِنْها أو الرسميَّة. القائد أو المدير في هذا المجال إن لم يكُنْ ذا كاريزما عالية بفنِّ إدارة الحديث ومهارة المجاملة وبمعرفةٍ كافية بإتيكيت مآدب الدَّعوات وحفلات الشَّاي وبنظام الأسبقيَّة، وبروتوكولات إدارة المناقشات والمفاوضات، ولُغة الجسد النموذجيَّة، ومهارة إتيكيت التَّوقيتات الزمنيَّة والمكان ومبادئ العلاقات العامَّة والتواصل، فإنَّ أيَّ خلَلٍ بهذه المفاهيم تكُونُ نتائجها سلبيَّة على الشَّخص، وبالتَّالي على البلد أو الجهة الَّتي يُمثِّلها؛ ولهذا يفشل كثير من المفاوضات، ليس بسبب التعنُّت بالشروط، وإنَّما بسبب ضعف المفاوض بفنِّ الاستماع والإنصات، والتأنِّي باتِّخاذ القرار وتطبيق أجندة ومقرَّرات فنِّ التفاوض. الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة لم تنشأْ من فراغ أو تأسَّست من باب المصادفة، وإنَّما جاءت من حنكة الدبلوماسيِّين المخضرمين ذوي الخبرة الطويلة بهذا العمل ليغيِّروا، أو بمعنى أصح، ليجدِّدوا فنَّ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بما يخدم عامَّة النَّاس برفاهيَّة وازدهار بعيدًا عن الصِّراعات السياسيَّة وفرض قوَّة القطب الواحد.

 

 

خبراء الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة استعانوا كثيرًا واعتمدوا على الدبلوماسيَّة الإداريَّة الَّتي يقودُها بكُلِّ اقتدارٍ عالِم الإدارة الفرنسي هنري فايول والَّتي تنصُّ نظرته على (أن تمارسَ الإدارة معناه بأن تتنبأ، وأن تخططَ، وأن تصدرَ الأوامر، وأن تنسقَ وأن تراقبَ)، ووضع المبادئ الأربعة عشر للإدارة وهي تشمل تقنيَّات هنري فايول للإدارة، والمعروفة باسم (المبادئ الأربعة عشر للإدارة)، تقسيم العمل، والسُّلطة، والانضباط، ووحدة القيادة، ووحدة الاتِّجاه، وإخضاع المصلحة الفرديَّة للمصلحة العامَّة، والمكافأة، والمركزيَّة، والسلسلة العدديَّة، والنِّظام والعدالة واستقرار الحيازة.

 

 

يُمكِن استخلاص مبادئ الإدارة وصولًا إلى أربع وظائف حاسمة، هذه الوظائف هي التخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة. ويوفِّر إطار عمل (POLC) إرشادات مفيدة حَوْلَ الشَّكل الَّذي يجِبُ أن تبدوَ عَلَيْه الوظيفة المثاليَّة للدبلوماسي الَّذي يشغل وظيفة مُهمَّة في مركز البعثة.

 

 

استوحت الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة من نظريَّات العالِم الفرنسي مبادئ جوهريَّة للانطلاق إلى عالَم الواقعيَّة، والعمل على الأرض، مستندةً إلى الفروق بَيْنَ مستويات الإدارة الثلاثة بشكلٍ عامٍّ، وهي كالآتي: الإدارة العُليا تضع الأهداف والاستراتيجيَّات قصيرة وبعيدة المدى، الإدارة الوسطى تقوم بتحويل هذه الأهداف إلى خططٍ قابلةٍ للتنفيذ، الإدارة الدُّنيا تقوم بتحويل هذه الخطط إلى مهامَّ يتمُّ تنفيذها في مسار العمل اليومي. معهد جنيف للإدارة يركِّز في أغْلَبِ حلقاته على الدبلوماسيَّة الإداريَّة والَّتي من أهمِّ أهدافها: تحقيق مفردات القيادة الرَّشيقة، الكفاءة العالية النموذجيَّة بإنتاجيَّة العمل اليومي، تحقيق الأهداف التكتيكيَّة المرسومة بأقلّ عددٍ من الموارد البَشَريَّة وبأقلّ تكاليف وموارد ماليَّة، مهارة وإتيكيت إدارة الوقت للموظفين، التخطيط اليومي والتنفيذ والمتابعة، مبدأ التكريم والإنذار والعقوبة، مبدأ النَّقد والنَّقد الذَّاتي للارتقاء بإنتاجيَّة العمل ضِمْن مؤشِّر (KPI).

 

 

خبراء الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة، وخصوصًا في المملكة المُتَّحدة، أدخلوا هذا التخصُّص في خدمة الاقتصاد، وبدأوا بالتحليل والبحث العلمي المبرمج حتَّى أنَّ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة في بعض الدوَل تركِّز على مجال قَبول اللاجئين ومنحِهم جنسيَّة بلدهم ليس حُبًّا فيهم، وإنَّما هُمْ ثمرة جاهزة مستفيدين من خبراتهم العلميَّة بمختلف الوظائف.

 

 

إنَّ مقياس نجاح الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة يقوم على أساس دفَّة الميزان المُتحقِّقة من خلال القائد أو الشَّخص المسؤول عن هذا الملف، وما تحقَّق ضِمْن فترات زمنيَّة مقسَّمة بصورة أكاديميَّة وعمليَّة على عدد الفصول الأربعة للعام الواحد، وكذلك يقسّم الفصل إلى الأشْهُر الأربعة، ثمَّ الأسابيع بوضع خطَّة التنفيذ والتخطيط وجني الثمار ضِمْن الصلاحيَّات والمهام والواجبات الموكلة للدبلوماسي المُكلَّف بهذا الملف أو الموظَّف الموجود بالداخل ضِمْن مظلَّة مفاهيم البروتوكول والإتيكيت الحكومي.

 

 

 

دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت