عاجل
الجمعة 19 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
وداعًا المثقف المصري الكبير الأستاذ عبد الغني داود

وداعًا المثقف المصري الكبير الأستاذ عبد الغني داود

من لجنة القراءة بالتليفزيون المصري عام 1964، وهو التليفزيون العربي الرائد والكبير وأبرز أدوات الإعلام المصري آنذاك في صناعة الإضاءة الكاشفة على الأفراد والمشروعات الإبداعية، بدأ المثقف المصري النبيل عبد الغني داوود مشواره المهني. بدأ عضواً بلجنة للقراءة ترأسها الكاتب الكبير نجيب محفوظ. وقتها بدأ اهتماماً مبكراً بالنقد السينمائي دفعه للرحيل عن المتن الإعلامي الواضح إلى مؤسسة السينما، والتي أصبحت الآن المركز القومي للسينما.



وطوال عمله في التليفزيون والمركز كان عبد الغني داوود علامة على النزاهة والترفع، كان يطبق ما يعتقد وما يفهم بكل دقة، إذ أنه من النوع النادر من المثقفين الذين انعكست ثقافتهم على سلوكهم اليومي.  عرفته مضيئاً زهرة الصحبة لمجموعة نادرة من أصدقائه قربني قربي منه إلى عالمهم الخاص يتبادلون المحبة والفكر والكتب وبعض من السخرية، ومن عالمه اليومي وصالون بيته الثقافي الذي كان مفتوحاً للجميع كان ممكناً الاقتراب من عالم الروائي الكبير يوسف جوهر صاحب السائرون نياماً، والاقتراب الأكثر حميمية مع مجموعات من الكتاب الجادين من جيله الأساتذة يسري الجمدي ومحمد أبو العلا السلاموني ومحمد الفيل وبشير الديك، والفنان الكبير عالم النفس د. حسين عبد القادر، والشاعر المتفرد المنعزل كبير المذيعين بصوت العرب عبد الفتاح الصبحي، والمونتير المبدع أحمد متولي صاحب البصمة السينمائية المهمة.

وعشاق للفن بقوا على علاقتهم الخاصة بالفن بعيداً عن الاحتراف التقليدي مثل د. محمد قناوي صاحب الدراسة الأبرز في الزار المصري، والنقابي صاحب المواقف المختلفة مصطفى ناجي والمترجم المهتم بالثقافة المسرحية أحمد عبد الفتاح، وغيرهم من الأصدقاء والذين لا أعرف كيف احتملت السيدة الراحلة ماجدة زوجته الطيبة المبهجة رحمهما الله رحمة واسعة ضجيجهم ونقاشاتهم والتي كثيراً ما كانت تنتهي بالغضب اللطيف كعادة المثقفين.

ومع ارتفاع المد المصري في المسرح ومشروع الثقافة الجماهيرية واستلهام التراث العربي والمصري شكلاً وموضوعاً، كان الأستاذ عبد الغني داوود حاضراً بمشروعه الإبداعي المسرحي في متواليات هادئة تشكل مجموعاً تراكمياً إبداعياً حرص على أن يكون منشوراً ومطروحاً على العالم الإبداعي المسرحي المصري والعربي، والذي بدأه بمسرحيات الفصل الواحد، ومن أعماله المسرحية شجر الصفصاف الخليفة وغريب في بلبيس التي أخرجتها عام 1988 لفرقة منفلوط المسرحية وكانت عملاً مختلفاً شاركني فيه بناء مسرح مفتوح المهندس المعماري أحمد  كشك، وكان مبتهجاً بها للغاية وبنجاحها الجماهيري آنذاك، وما أجملهم هؤلاء المبتهجون بالهامش الثقافي البعيد، الذي هو جوهر الشعر المسرحي حقاً، ومن أعماله المسرحية هوجة عرابي وخيانة الولس ، والقبة والضريح، الجازية الهلالية اللعنة من فوق المنبر، حلم الأباريق الفخارية، النوساني، تنويعات هلالية، عزيزة، السيل، الغريق، أطياف الخيال. ولكن في جمعه الطبيعي المتفق مع مفهوم رجل المسرح وتعدد الاهتمامات بقى ما كان يكتبه عبد الغني داود من نقد تطبيقي مسرحي بالغ التهذيب والموضوعية والتي كان يستخدم فيه لغة نقدية تلمح ولا تصرح، ولكنها تعرف للنقد موضوعيته، بقيت أعماله المسرحية بعيداً عن البيوت المسرحية الاحترافية عمره الإبداعي كله، وحتى الآن. 

ولذلك تفسير وهو أن ما كان يكتبه عبد الغني داوود لم يكن النوع مرتفع الصوت القادر على أن يخيف هؤلاء، ولم يكن ذلك النوع المجامل الذي يلعب دور المتحدث الإعلامي باسم هؤلاء، وهكذا بقى إبداعه بعيداً سنوات طوال. 

ومشروع عبد الغني داود النقدي يحتاج حقاً إلى جمع وتوثيق فقد حرص سنوات طوال منذ بداية السبعينيات وحتى ما قبل رحيله على الانتظام قي كتابة النقد المسرحي التطبيقي في مجلات كانت علامات كبرى مثل المسرح، القاهرة، فنون وغيرها.

ولكنه ككل الذين هذبت الثقافة سلوكهم كان يبقى بعيداً ومترفعاً، وجمع مشروعه النقدي التطبيقي المتناثر بمثابة جمع لتاريخ المسرح المصري المعاصر، وخاصة تاريخ الهامش الذي لا يهتم به الكثيرون. ومن كتبه النقدية الهامة حفريات المادة المسرحية الخام، وكتاب دراسات في المسرح العربي، وكتاب الأداء السياسي في مسرح محفوظ عبد الرحمن.

ولعل جائزة أبو القاسم الشابي من تونس عن مسرحيته اللعنة من فوق المنبر تعد أبرز الجوائز المسرحية، كما حصل في مصر على جائزة مستقلة هي جائزة ساويرس الثقافية عام 2014، وكانت بهجة خاصة لقدومها من المجتمع المدني.

  إلا أنه كان يعتز اعتزازاً خاصاً جداً بالتكريم العربي في تونس. إنه المصري ابن قرية كفر الغاب مركز كفر سعد بمحافظة دمياط الذي ولد في ديسمبر 1939 في كفر الغاب ورحل في يوليو 2024 في القاهرة.

كان ككل أهل الحكمة الذين هم أبناء ريف مصر الطيب، يعرف أن من زرع حصد، وأن الشمس تشرق لتغيب وأنه بارك الله في رجل عاش من عمل يده. ولذلك فقد حرص خريج كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية 1962 على أن يعبر مساره المهني بعيداً عن أية شائبة، أمانة نادرة يحكي عنها الجميع والتي بدت في فترة كونه مدير الأرشيف القومي للفيلم، حديث الجميع.

إنه زميل نجوم السينما المصرية في المركز القومي للسينما عندما كان المركز يضم الأساتذة على بدر خان وخيري بشارة وداود عبد السيد وغيرهم، الذي قضى وقتاً كبيراً من عمره في كل أطراف مصر في الثقافة الجماهيرية محاضراً ومكتشفاً للمبدعين ومتابعاً وداعماً ومشجعاً لأجيال عديدة، سنوات طوال منح فيها عبد الغني داوود الثقافة المصرية عملاً نادراً من الإسكندرية إلى أسوان، وليس أدل على ذلك من سلوك يمكن تفسيره بالانحياز للثقافة الوطنية.

كما أن للأستاذ عبد الغني داوود ترجمات عدة عن الإنجليزية شارك بها في الترجمات الصادرة عن مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ومنها مسرحية قدمها مسرح الغد مترجمة عن المسرح الهندي الحديث في بداية افتتاحه مع إدارة القدير عبد الغفار عودة.

كان رقيقاً ككل الأقوياء، مهذباً ككل المترفعين، ومن مجاورتي له ومعرفتي القريبة جداً بشخصه المثقف المحترم، أعرف أنه لم يهتم كثيراً ببؤر الضوء الساطع والثروة.

كان حقاً أجمل ما رأيته له من صور تلك الصورة التي رسمها له الأستاذ والفنان الأديب أمين ريان، وهو في ريعان الشباب فقد عرف كيف ينفذ لروحه المسالمة ولحزنه العميق القادم من إدراك حقيقي لأن الأمور لا تسير على ما يرام.

 

عمر عامر ناهز الخامسة والثمانين من العمل اليومي المتصل، يجب حقاً جمع أعماله الكاملة النقدية التطبيقية والدراسات النظرية والترجمات جنباً إلى جنب مع إرثه الإبداعي المسرحي الثري. كانت حياة عبد الغني داوود اليومية حالة إبداعية يراقب فيها مفارقات الحياة الفنية والثقافية بسخرية صامتة، حاضراً في مشاهدها العديدة حضور النسيم الصافي في ليال حارة، أو كالدفء في لحظات البرد القارس، له أحباء من كل الأجيال، وله ذكريات حلوة مع الجميع، المترفع المنضبط الكريم الودود المثقف المصري الكبير الأستاذ عبد الغني داوود، في ذاكرة الثقافة الوطنية بالتأكيد وفي قلوب المحبين باق على الدوام. 

رحمة واسعة ومغفرة في جنة الخلد إن شاء الله بما قدمه للثقافة المصرية من سلوك إنساني نادر وإرث إبداعي ونقدي سيبقى للمستقبل، وداعاً صديقي الحبيب الأستاذ عبد الغني داود.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز