د. حسام عطا
جائزة مهرجان كان السينمائي.. تحية لأهالي قرية البرشا الكرام
أعرف المنيا عروس الصعيد جيداً، فيها قضيت أوقاتاً سعيدة في الطفولة والصبا الباكر، لقربها من مسقط رأسي أسيوط.
في المنيا اندماج متماسك في نسيج واحد بين الأقباط المسيحيين والمسلمين. وفي المنيا ووجهها المضيء وتسامح أهلها الخلافات الثأرية أقل بكثير من مدن أخرى وقرى عديدة في جنوب الصعيد. وفي المنيا حضور تاريخي للمرأة في المجتمع أكثر وضوحاً في العلن، رغم حضورها الحقيقي في صعيد مصر، وإن كان يبقى بعيداً عن إعلان ذاته بسهولة كما يحدث فعلياً على أرض الواقع.
المنيا تحمل داخلها الكثير من الجينات المصرية العظيمة تاريخياً في مقدرتها على الزراعة والعلوم والفنون والتعدد الثقافي.
يتسع النيل في المنيا كثيراً وهو يمر بها، وهي ذات طابع لين متزن يخلو كثيراً من الحضور الذكوري الواضح في صعيد مصر، وهو الذي تدير معظمه في الشأن العائلي القواعد من النساء.
ولذلك فيبدو أن إدارة السيدة دميانة نصار وعشقها للفن، والذي تجلى في بطولتها لفيلم ريش وهو الفيلم المتوج في كان 2021، فقد نقلت لهايدي أبنتها ذلك الاهتمام بالفن، وهايدي عضوة فاعلة في فريق التمثيل المسرحي بانوراما المكون من مجموعة مدهشة من فتيات البرشا، وهي قرية تابعة لمركز ملوي بمحافظة المنيا صارت من أشهر الفرق المسرحية وتصدرت محركات البحث عالمياً خلال الأيام الماضية بعد فوز فيلمهم التسجيلي رفعت عيني للسماء بجائزة أفضل فيلم تسجيلي بمهرجان كان السينمائي الدولي، وسفر الفتيات للمشاركة في حفل منح الجوائز بفرنسا.
والفيلم هو توثيق لتدريبات وعروض الفرقة التي تقدم مسرحها في شوارع القرية، فتيات مصريات رائعات عبرن عن فهم عميق لحق الإنسان في التعبير والإبداع، مسرحهم فوق سطح منزلهم، أو في أي فضاء بالشارع. ولعل فرقة البرشا تؤكد بوضوح مسألة حرية الإبداع والمقدرة على تفعيلها عندما يصبح الإبداع أصلاً وضرورة حقيقية.
وبتأمل فرقة البرشا تتأكد مجموعة مهمة من الملاحظات الفنية تتجاوز فكرة الإعجاب والتكريم والإشادة، وأولها طريقة توثيق العمل المسرحي عبر الكاميرا، وعلاقة السينما بالمسرح وقدرتها على نقل التجربة المسرحية إلى التوثيق والتعريف والحفظ والفهم والنشر على نطاق واسع.
وهو تعاون إبداعي نقي بعيداً عن عالم الاحتراف في العالمين المسرحي والسينمائي، وربما يعيد إطلاق الاهتمام بمسألة علاقة المسرح والسينما في مساراتها الاحترافية الإبداعية.
كما يمكن أن نعتبر تجربة البرشا الإبداعية أحد أهم الأدلة الواضحة على أن تبادل الثقافات والإبداع في عالم بات حقاً قرية كونية واحدة أمراً ممكناً حقاً، إذ يمكن للإبداع المحلي للغاية وبأبسط الإمكانيات المادية وبأدوات بسيطة جداً أن يذهب إلى مهرجان كان، وأن يحصد هذا الاهتمام العالمي.
مع تأكيد واضح على أن حفيدات المصرية القديمة فعلن بشكل مستنير ما عبر عن تكوينهن الثقافي الحضاري التاريخي في الإبداع الحر العفوي العميق.
من المؤكد أن وهج الإبداع ولذته ودهشته وقدرته على أن يسري في مجتمع القرية وأن يؤثر فيه وأن يفرض حضوره الإنساني، لهو إشارة لعمق حيوية مصر وريفها العفي وصعيدها المشرق.
وهو ما يذكرنا بأن المسرح والفنون ليس فقط احتياجاً إنسانياً، وإنما أيضاً ظاهرة اجتماعية. إذ أن تقبل مجتمع القرية لمجموعة الفتيات واعتمادهم اجتماعياً يؤكد عمق ظاهرة الإبداع الفني والمسرحي على وجه الخصوص في مصر وهي أول حضارة عرفت فن المسرح في التاريخ الإنساني.
مما يعيد الإشارة الواضحة للمؤسسة الثقافية المسرحية الرسمية في مصر لضرورة انتظام المواسم المسرحية والإعلان عنهما وعودة التنوع المسرحي الإبداعي كماً وكيفا، واتصاله بالجمهور العام حرصاً على إنجاز الثقافة المصرية الحديثة والمعاصرة المتجدد بعمقه التاريخي في جعل الذهاب للمسرح عادة اجتماعية هامة، يجب الحفاظ عليها.
كما توجه الفرقة رسالة لكل القادمين من الأطراف الثقافية جغرافياً والذين يعيشون بعيداً عن عواصم الدول، أن التكنولوجيا الأثيرية والكاميرا يمكن استخدامهما لجعل تأثير الأطراف فاعلاً ومعبراً عن نفسه وقادراً على الحضور والتأثير في المركز وها هي البرشا تؤكد حضورها مؤثرة في القاهرة ومحيطها العربي والإقليمي والدولي.
كل ما نتمناه أن تتحول الأطراف الثقافية البعيدة إلى مراكز مضيئة وأن تستمر في مكانها الأصلي الطبيعي هناك، وهو أمر يجب دعمه وتثمينه والحرص عليه بذات الحرص على أن تسافر الفرقة حول العالم.
فالجائزة الكبرى قد منحها لهم قبل مهرجان كان الناس في مصر، أهل القرية التي هي هناك محاطة بالتقاليد وبالاختلاف العقائدي الذي هو نموذج حضاري لسبيكة مصر الواحدة في إيمان أهلها بالله واليوم الآخر، ربما بدأ بعضهم بالسخرية أو الدهشة، إلا أن الفرقة قد حظت بتأييد واعتراف اجتماعي في مكانها الأول، وهو النصر الأول الكبير والذي فتح باب الأمل والانتصارات.
فرقة بانوراما البرشا المسرحية هي فرقة تدخل ضمن سياق مسرحي معاصر في المسرح التجريبي وهو مسرح الدار، الذي يقيمه الفنانون في البيوت، وهى مسرح شعبي مصري جوال، وهذا النوع المسرحي تاريخي في مصر وكان واسع الانتشار، هي فرقة حرة جداً تناقش قضايا مجتمعية إنسانية بكل العفوية والصدق، وقد ذهبت للجمهور عبر مسرح الشارع رافعة راية وهج الإبداع وكرامته الإنسانية. وقد رفعت البرشا أسم مصر عالياً في مهرجان كان السينمائي في إشارة مهمة لحيوية الإبداع المصري وقدراته وحيوية مصر المبدعة التي لن تتوقف عن إنتاج المواهب والإبداعات الكبرى.
شكراً فتيات البرشا الرائعات المدهشات المبدعات، فالإشارة واضحة ألا وهي نداء لكل الأطراف البعيدة في مصر تؤكد أن الإبداع شرف، وأن الإبداع قادر على أن يدور حول العالم.
سلام من القلب لبانوراما البرشا وهم : مخرج الفيلم التسجيلي ندى رياض وأيمن الأمير وبطولة نجمات الإبداع المصري ماجدة مسعود وهايدي سامح ومونيكا يوسف ويوستينا سمير ومريم نصار وليديا هارون. ويوستينا سمير رئيسة الفرقة، ولأهالي قرية البرشا الكرام.