د. حسام عطا
الجامعة والمأزق الوجودي
عن الجامعة المصرية الحلم والأمل، التي يدور حولهما حوار موسع خلال الأيام الماضية، ما زلت ملتزماً بالمتابعة للكتابة عنها وعن مشكلاتها وأحلامها، كواجب وفرض عين وضرورة.
وقد كانت الجامعة إلى وقت قريب حلماً أساسياً لكل خريجيها بالعمل فيها، إذ كان مقعد "المعيد" هو الهدف المهني الأمثل للمتفوقين، كانت الوظيفة العليا في درجتها الأولى "المعيد" تقدم راتباً محترماً وانتظاماً مجانياً في الدراسات العليا وبعثات علمية لأهم جامعات العالم، ثم مقعد الأستاذية الذي يحظى بتقدير من الدولة والمجتمع معاً.
دعنا نطلب من مجلس النواب ضرورة الحفاظ على تلك المكاسب واستعادتها على الصعيد المالي والمعنوي والعلمي، كي نطلب من الجامعة أن تقدم الدور المطلوب منها في خدمة المجتمع والعلم والآداب والفنون.
ودعني أطالب بعودة تلك المكاسب المهمة مثل مساكن أعضاء هيئة التدريس، التي تسببت في استقرار أجيال عديدة من الذين عملوا بها.
جدير بالذكر أنني بدأت بداية مهنية رائعة حققت لي وفرة مالية نسبية كي أنجز المسار الأكاديمي، ودونها لما استطعت إنجازه.
بدا لي المجال الأكاديمي عملأً تطهرياً وسبباً للاتصال المستمر مع أحدث النظريات والإنجازات العلمية لتعزيز مساري المهني في وقت كان المسرح المصري وبحق على رأس أولويات الإنتاج الفني للدولة، وكان في مكانة رفيعة المستوى بجمهوره وفنانيه، والحضور الكبير لنجومه المرتبطين بالقضايا الوطنية مما جعله على رأس الفنون التعبيرية في مصر والوطن العربي.
وهكذا سارت العلاقة بين مساري المهني والأكاديمي سيراً طبيعياً إلى أن خرج المسرح من رأس الهرم الإبداعي وتراجع دوره المحترف جداً إلى عالم الضحك والتسلية.
وهنا بدأت المسارات تتعارض، بل وطرحت على نفسي السؤال الذي فرض نفسه على الأساتذة والطلاب عن سوق العمل ومدى احتياجه إلى الخريجين، إلا أن سوق العمل العربية فتحت لهم آفاقاً ضخمة، وأصبحوا نجوماً لامعة في عالم الدراما التلفزيونية، والتي لم تكن هي الهدف الأول للمبدعين المصريين في الثمانينيات المزدهرة مسرحياً وسينمائياً.
وتبقى المسألة بالنسبة لجيلي الذين حصدوا درجة الأستاذية بمكاسب أقل من الأجيال السابقة ممكنة رغم كل الضغوط والصعوبات التي تواجهنا، إلا أنني حقاً أشفق على الجدد من هزال المقابل المادي وندرة الابتعاث وأيضاً شبه غياب تام لتمويل الأبحاث العلمية الجديدة.
صاحب ذلك في الجامعات المصرية أزمات كبرى للأساتذة الذين لم يمارسوا العمل المهني وأشياء أخرى، مما أحدث نوعاً من التوتر اليومي أثر بوضوح على سيولة في الانتظام وجودة الأداء وتطويره وعلى الإخلاص المهني، رغم أنني أجزم بأن هؤلاء الأساتذة الأفاضل هم القابضون على الجمر في الأيام الصعبة.
وفي ظل صمت تام أعقب شيطنة حركات ومجموعات جامعية كانت تطالب بالحقوق المتعددة للأساتذة بداية من الرواتب العادلة وصولاً لحرية العمل الأكاديمي، حدث صمت تام في الجامعات المصرية بشأن المطالب المستحقة.
وصرف مجلس النواب النظر عنها وتجاهلها المجلس الأعلى للجامعات، ربما من باب الحياء وخشية المطالبة التي ربما تبدو فئوية.
وأيضاً سعي معظم الأساتذة كل بمفرده لخلق حالة من التكيف والبدائل المنهكة التي تسد الفجوة المالية الحادة، ولكنها تفعل ذلك خصماً من رصيد مقدرة الأساتذة على ملاحقة التطور العلمي المتلاحق بالغ السرعة.
وربما تبدو الجامعات في حالة مأزق وجودي في مسألة تطوير مناهجها والارتباط بسوق العمل، وهي مسألة ليست مصرية أو عربية وإنما هي مسألة عالمية.
ودعني أستعير للتعبير عنها ما وصفة كتاب الشر السائل عن الحالة الجامعية الأوروبية الغربية في عالمنا المعاصر، إذ يرجع زيجمونت باومان وليونيداس دونسكيس الأمر في كتابهما المشار إليه بأن الجامعات الأوروبية تعيش "مرحلة الجامعة ما بعد الأكاديمية، أننا بصد خليط من طقوس أكاديمية القرون الوسطي، وتخصصات منفصلة، ونفي واضح صريح لدور العلوم الإنسانية في العصر الحديث، وترعة إدارية في معالجة الأمور ، وضغوط كبيرة من القوى التكنوقراطية المتخفية في أصوات أصلية للحرية والديموقراطية، وأيضا الحتمية القدرية المركزية لمتطلبات السوق، مما يؤثر على عملية التركيز في مسألة العلوم وتقدمها وتعليمها، ويقلل من التفكير في البدائل، ما في ذلك أبرز البدائل الضرورية لفكرة الجامعة، ألا وهي مسألة الفكر النقدي ومراجعة الذات".
هذا والحديث السابق هو عن مأزق وجودي للجامعات الأوربية الغربية العريقة والمستحدثة رغم كل الإمكانيات الهائلة والميزانيات الكبرى والاهتمام بمبادرات البحث العلمي من كل الهيئات الرسمية والمجتمع المدني الأوروبي، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي بطاقاته الكبرى.
فماذا عن مازقنا الوجودي هنا في مصر في جامعاتنا الرائدة في المنطقة العربية؟
والتي لا تزال تحتفظ بريادتها وقدرتها على التأثير في محيطها المصري والعربي معا ولا تزال تقدم العباقرة لمصر والعالم معا.
الجامعة المصرية ومؤسسات البحث العملي في مصر ثروة كبري ورأسمال فعلي ورمزي لا يقدر بثمن، وطالما تم التعاطي مع هذا الأمر، فأظن أن عدم الإشارة لما تستحقه الجامعة وما تحتاجه من دعم ومساندة كبرى هو تقاعس مرفوض.
إن عمل الجامعة لهو دور قبل أن يكون وظيفة، ومهمة قبل أن يكون مهنة ينظمها القانون.
ولذلك فجدير بالذكر تجديد الدعوة إلى ضرورة وحدة العلوم البحتة والاجتماعية والفنون في بوتقة مشتركة، وذلك سعياً للإلمام بمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية، التي تعد قوة الدفع الرئيسية في تشكيل العالم مع المقدرة على التفاعل مع العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية والفنون والآداب، من منطلق الإيمان بوحدة المعرفة.
ولا أنس أبدا طالبة الطب في السوربون، التي حاولت أن تدرس مقررا بأكاديمية الفنون عن المسرح المصري لأن الجامعة هناك تعطيها حقا اختياريا لدراسة مقررا إنسانيا حرا ضمن برنامج تخرجها في أي مكان في العالم تختاره، ولكنها عادت أدراجها إذ لم أتمكن من تحقيق مطلبها لأسباب لائحية منظمة.
إن دراسة الآداب والفنون في التخصصات العلمية صار الآن في الجامعات الأوربية أمراً واقعاً، كما أن دراسة طلاب الآداب لعلوم البرمجة والحاسبات والتفكير المنظومي أمراً متاحاً جداً.
بل إن الاتحاد الأوروبي يعمل منذ سنوات بميزانية ضخمة على برنامج وحدة العلوم والفنون من أجل العلوم البينية التي تقع بين كل التخصصات، والتي يحاولون من خلالها إعادة التفكير المنظومي العلمي التكاملي والذي نشأ بسببه علوم جديدة تمت تسميتها بالعلوم الناشئة.
وفي هذا الصدد يجب النظر بكل اهتمام لتطور الجامعة المصرية، مع ضرورة الحفاظ على مسألة البحث العلمي الجاد في رسالة الماجستير، وعلى الابتكار والإضافة في رسالة الدكتوراة، إذ أثبتت التجربة المصرية في الجامعات التي اعتمدت على مقررات دراسية بدرجات أكبر من درجة الرسالة نفسها، في المرحلتين إلى نتائج سلبية للغاية، وهي قاعدة كلاسيكية مصرية يجب الحفاظ عليها في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
حتى لا تحدث بهما سيولة ضارة، في إطار المأزق الوجودي للجامعات الأوروبية والمصرية معا، ولأنه في حقيقة الأمر ماذا لدينا كي ندرسه مجدداً في الفصول بعد كل ما تم تدريسه نظامياً في مرحلتي البكالوريوس ومرحلة الدراسات العليا، ربما يحتاج الباحث لبعض من حلقات البحث المصاحبة لدعم عمله البحثي، مع بقاء تقاليد الإجازة والمنح لدرجتي الماجستير والدكتوراه، كما هو مستقر ومتعارف عليه منذ إنشاء الجامعة المصرية.
هذا ومأزقنا المصري أعمق ومنجزنا في الجامعة المصرية منجزا تاريخيا يستحق العناية البالغة من الدولة والمؤسسات التشريعية والمجتمع المدني.
وإن كانت سطوري هذه رسالة من القلب بالأساس لمجلس النواب، فأهل الجامعة يعرفونها جيداً ويعرفون ما هو أكثر بكثير.