
أشمنت قرية الأبطال

كتبت سامية عطاالله
«جبرتى القرية»
«ناظر الابتدائى»
كل شوارع القرية تحمل أسماء شهداء
هذه قرية مجهولة قدمت أكبر عدد من أبنائها فداء لمصر خلال حروبها العديدة التي خاضها على مدى تاريخها الطويلة من حملة نابيلون على مصر وحتى حرب العبور فى عام 73.
قرية أشمنت
عندما وضعت قدمى على تراب قرية أشمنت «16 كيلو من بنى سويف» سألت عن سر هذه التسمية.
أجاب الفلاحون البسطاء: إن اسم القرية مكون من مقطعين «أش» ومعناها «أخضر» و«منت» ومعناها «جبل»، الاسم فرعونى قديم. صاح أحدهم: اسم القرية الآن يجب أن يتغير ليكون «أم الشهداء»، اعترض آخرون بأن أم الشهداء اسم لا يحمل معنى العطاء فى المستقبل، وهذه القرية أعطت وسوف تعطى، فمن ررحم كل أم مصرية، جاء ويأتى وسوف يأتى كل الأبطال!
الشوارع هنا لها أسماء، ليست الصدفة هى التي جعلت أسماء شوارع القرية وحواريها وأزقتها كلها لشهداء الوطنية المصرية، بالتأكيد.. هناك قدر من الحس الوطني الناضج، اللافتات الملصقة على جدران طينية تحمل أسماء أبطال مصر السابقين: أحمد عرابى، مصطفى كامل، سعد زغلول، محمد فريد، عبدالله النديم، أحمد عبدالعزيز، وحتى أم المصريين وهدى شعراوى يحمل شرعان كبيران اسميهما! أول الشهداء.. طفل!
وقبل أن أبدأ الزيارة.. أسجل ما جاء على لسان «جبرتى القرية» اسمه «سيد رياض سيد» عمله ناظر لإحدى مدارسها الابتدائية، يقوم الآن بعمل سجل لبطولات القرية، ربما يبدو التقليد جديدا على القرية المصرية، وناظر المدرسة الشاب يبدو غارقا لأذنيه فى بطولات قريته. قال لى بالحرف الواحد:
قريتنا عرفت الاستشهاد منذ قديم الزمان.. ورغم ما كانت تعانيه المنطقة من فقر وحرمان، فإن أهلها دائما كانوا يلتهبون وطنية، ففى أثناء حملة نابليون - وهذا ما تعيه ذاكرة كبار السن الآن - على مصر فى سنة 1798 ، بدأ الجيش الفرنسى يغزو الوجه القبلى، وعند حدود قريتنا تعثر الجيش فى طريقه، جاء غلام صغير وغافل عددا من الجنود الفرنسيين وحمل بنادقهم كلها على كتفه النحيل ومضى فى طريقه.. غير أن أحد الجنود رآه فجرى وراءه حتى أمسك به وقدمه إلى قائد الحملة، وذهل القائد من هذا العمل البطولى الذي أقدم عليه طفل لا يتجاوز عمره الثانية عشرة.. ولكن لأن العدو «غدار» بعد أن أعلن القائد الفرنسى أنه سيكتفى بجلد الطفل البطل 30 جلدة - تحملها الجسد الضعيف بدون صراخ أو عويل - أطلق عليها النار ليسجل التاريخ استشهاد أول طفل فى القرية من أجل مصر!
وعندما قامت ثورة سنة 1919 كان نصيب تلك القرية فى التضحية والبذل والفداء مضاعفا، فقد نشبت فيها الثورة ولم تخمد إلا عندما استشهد البطلان محمد عبدالخالق الجندى وشقيقه أحمد فى لحظة واحدة.
الاستشهاد = بناء!
ويكمل الراوى كلامه فيقول:
«فى حرب فلسطين قدمنا اثنين من الأبطال، وخلال العدوان الثلاثى قدمنا سبعة شهداء.. حرب 5 يونيو أخذت من أبناء البلد 22 شهيدا.. ونصل إلى حرب العبور - الجبرتى الواقف أمامى يرفع يده - يقول ما ستشاهدينه الآن هو البطولة الحقيقية.. ما سوف تسمعينه من أهالى الأبطال.. لن أتكلم.. فهاهو الواقع أمامك يحدثك.
الزيارة الآن لبيت أحد شهداء القرية الصغيرة.
يتحدث الأب.. رجل جاوز السبعين، صلب، شجاع، تتجلى شجاعته فى الروح السامية التي استقبل بها استشهاد وحيده الشهيد له شقيقات ثلاث ومنذ صغره بدأ محبا للعسكرية.. هاويا لها.. وهكذا دخل المدرسة الثانوية العسكرية.. وعندما تخرج فيها التحق بالكلية الحربية ثم بمدرسة المظلات ثم كلية القانون وأركان الحرب. حرص الشهيد على اقتناء وقراءة أحدث الكتب العسكرية فى العالم، رفض المقاتل البطل «سامى أحمد زين» ليلة أن أصيب فى رأسه - بالتحديد فى يوم الاثنين الثامن من أكتوبر عام 1973 - رفض أن يخلى موقعه ويعود إلى الخطوط الخلفية للعلاج عصب رأسه.. ضمد جرحه بنفسه وبقى مع زميله الشهيد عبدالتواب ينظمان القوة التي قررت التمسك بالموقع والصمود، ولم يكن يعلم المقاتل سامى لحظة اتخاذه القرار بالبقاء فى موقعه أن حياته المليئة بالعمل والخلق والابتكار، تقترب من نهايتها.
يصل الشهيد سامى ينضم إلى الشهيد إبراهيم عبدالتواب، إلى نور، إلى عبدالخالق، إلى أحمد، إلى عبدالرازق، إلى العديد من النجوم التي لمعت كالشهب الثاقبة فى هذه المنطقة الخالدة من مصرنا.. «أشمنت» الجبل الشامخ الأخضر!
.. واحترقوا ليضىء المستقبل.
الزيارة الآن لبيوت اثنين من شهداء البلد، استشهادهما يجعل كل الكلمات عن بطولاتهما عاجزة.
الحديث عن بطولات الأهل، أرملة الشهيد حسين قابلتها، لم أعرفها، ملابسها زاهية، الأزرق والأخضر والأحمر، هى نفس ملابس الدخلة، جهاز العروس الذي ترتديه كل عام فى ذكرى استشهاد زوجها الذي هو العلامة المميزة للعبور الكبير فی 6 أكتوبر.
الفتاة لم تبلغ الخامسة والعشرين من العمر، ولكن تجربة استشهاد الزوج تقفز بها عشر سنوات كاملة أو أكثر.
قالت: أنا حصل لى الشرف باستشهاده!
والد الشهيد «بكر» رجل فى الخمسين، جاء خبر استشهاد ابنه وهو يستعد لبناء بيت جديد.. رفض إقامة ليلة لتلقى العزاء.. وفى الصباح بدأ عملية البناء.. وكأن شيئا لم يحدث!
قال لى: هذه هى الترجمة الوحيدة لمعنى استشهاد البطل. أن يتحول إلى عملية بناء مستمرة.
دهشتى لا توصف من كل ما رأته عيناى.. وما سمعته أذناى.. الصورة هنا تختلف تماما، كل الذين شاهدتهم.. تحدثت معهم سمعت أصواتهم، كانوا يحملون فى كل حرف، وفى كل حركة، مصر، كلهم ردوا على تساؤلاتى
الكلمات وتصلنى من أصوات مختلفة، وتلخيص ما قالوا يبدو كالتالى:
67 بالنسبة لنا كانت هزيمة، والهزيمة توجب الثأر، ومن عاداتنا فى الصعيد أن نفرح ونسعد بأخذ الثأر، عندما يقتل لنا رجل لا نقيم له ليلة مأتم، وفى يوم ثأره، يقام له مأتم من نوع جديد، ليس للعزاء.. ولكن للتهنئة هذه المرة وحرب 6 أكتوبر كانت ثأرا لهزيمة 5 يونيو.
روزاليوسف العدد 2574