

مودي حكيم
الهجرة غرام.. أم انتقام 6
يوسف إدريس وتلميذ مجدي يعقوب النابغ!
من درر مؤلفات الطبيب يوسف إدريس وفي كتاب "مدينة الملائكة" مقال تحت عنوان "عبقرية المعارف"، يستهله باعتذار للقارئ عن الكتابة عن الأمراض عامةَّ، وعن أمراض الكاتب خاصةَّ وهي مادة غير محببة إلى القارئ، فهو مثقل بالمشاكل، ويريد أن يقرأ شيئًا آخر، وأوضح أنه يتحدث في كلماته عن ظاهرة مصرية.
أصبحت فعلًا مشكلة خطيرة من مشاكل شعبنا، ذلك هو الإهمال، إهمال المرافق العامة، ونظافة الأمكنة والشوارع والذي امتد للإنسان ذاته، واكتشف إدريس أن أجسامنا قد ترهلت بطريقة مزعجة، وأنه شخصيًا أحس أنه ترهل، وأصبح يلهث لدى أي مجهود، وكان يؤجل التفكير في جسمه وصحته باعتبار أن هناك أشياء أكثر أهمية بكثير، وهذا يعتبر في العرف العلمي المتحضر جريمة لا تُغتفر. وبعد عطلة بالخارج بدأ عقل يوسف إدريس كما يقول - ويقولون – يروق، تذكر أنه لم يجرِ فحصًا شاملًا لجسده منذ أكثر من سبع سنوات، وأن طبيبه الدكتور مجدي يعقوب الذي أجرى له عملية منذ اثني عشر عامًا أوصاه بعمل فحص شامل كل ستة أشهر مرة، ولكن بعد عام أو عامَين، أهمل كل شيء، طلب الاديب الكبير د. مجدي يعقوب لتحديد موعد، ولكن مساعدته التي تذكرت الحالة والعملية، اعتذرت بأن الدكتور مجدي يعقوب مشغول باكتشافاته وقتها في زراعة القلب والرئتين، وأنها تحيله إلى طبيب زميله، وشعر إدريس بهُنَية من الضيق، وخيبة الأمل، واعتذر عن الذهاب إلى الذي لا يعرفه، وتذكر أن الطبيب المساعد الأول لمجدي يعقوب في عمليته وأنه يعرف حالته تماما، هو الطبيب المصري ذهني فراج، ورغم أن الطبيب المساعد كان في إجازة في إسبانيا، فقد انتظره إدريس على جمر ليحدد له موعد في عيادته بهارلي ستريت، الشارع الذي لا يستطيع أن يفتح فيه عيادة إلا من وصل إلى شأو علمي خطير في الطب، وأصبح على الأقل في مرتبة "مستشار" طبي أو جراحي- حسب قول إدريس- ليكمل روايته.
"في الدقيقة لا بُدَّ أو أعترف بشيء، نحن في كثير من الأحيان نجني على من نعرفهم شخصيَّا جناية بالغة؛ ولأن محمد ذهني فراج كان من شباب العائلة الأصغر فلم أكن أتصور أنه، وحده، يستطيع أن يكمل دراسته في إنجلترا، ويصبح واحدًا من أعظم جرَّحي القلب وأطبائه في لندن، ومستشارًا لواحد من أعرق مستشفيات إنجلترا التاريخي، كل هذا وأنا ما زلت أنظر إليه باعتباره ذهني فراج الطبيب الشاب حديث التخرج في رأيي، وإن كان قد مضى على تخرجه الآن أكثر من عشرين عامًا ووصل إلى كل ما وصل إليه".
ويكمل كاتبنا الكبير قصته مع الطبيب المصري المغترب "...والحقيقة أن مقابلتي معه كانت عاصفة، فقد قال لي بصريح العبارة إنني أنتحر، وإنني بالحالة التي كنت فيها معرَّض للموت فجأة؛ ذلك أنه وجد في جسدي كمية من المياه الزائدة تعادل أكثر من ثمانية لترات؛ ونتيجة لهذا فهناك ارتباك في دق القلب...، كل ما كنت خائفًا منه... حتى لقد قلت لنفسي إنه يحاول إخافتي ليس إلا. ووصف لي دواءً مدرَّا للبول مع دواء آخر.. وكانت المفاجأة بعد ثمانٍ وأربعين ساعة فقط، وعاد تنفّسي طبيعيَّا، وعدت أسير لميلَين وثلاثة أميال".
ويختم انيس منصور تجربته العلاجية بالشكر لطبيب القلب "شكرًا للنابغة من نوابغ مصر الشابة، وآسف تمامًا لبيئتنا الطاردة التي تقدم مواهبنا إلى حضارات أخرى على أطباق من الفضة".
تذكرت ما كنت قد قرأت من أدب يوسف إدريس، وما ذكره في أحد كتبه عن الطبيب الجراح، وانا استقبل صديقا آتيا من مصر للقاء د. ذهني فراج باحثا عن العلاج من مشاكل في القلب، الصديق كان المحامي المعروف فايز جريس، أخ صديق العمر لويس جريس، الذي لجأ لي لتحديد موعد مع طبيب القلب د. فراج، وساعدني في هذا صديقي الدكتور فايز بطرس عمدة الاطباء المصريين في الشارع الشهير، في الموعد المحدد التقينا في عيادته بهارلي ستريت، كان الرجل قصير القامة، يبتسم بخجل، يتمتع بالثقة بالنفس في قدراته، لم أعطه الفرصة ليتحدث لصديقي المريض أسرَني الرجل بلطفه، مما دفعني لمعرفة المزيد عن الرجل، وسر حضوره إلى لندن، وقصة نجاحه، فالرجل من مركز إيتاي البارود، وبها ما يقرب من 455 قرية وتعدادها حوالى نصف مليون نسمة، في أقصى شمال مصر، وهي مدينة توفيق الحكيم، ومحمود سامي البارودي، والامام محمد الغزالي وغيرهم من أعلام هذه المدينة.
عرفت أنه أتجه إلى دراسة الطب لسببين: الأول أنه طالما كان يتمني أن يعمل بيديه، ولذا أراد أن يصبح مهندسًا، ثم غير اتجاهه بسبب أمنية أبيه، الذي تمناه طبيبًا، لكن جدته رأت مشهدًا لطبيب يشرح ميتًا والناس تدعو عليه، فمنعته من دخول كلية الطب، فرأى والده أن أحد أبنائه يجب أن يكون طبيبًا، وبالفعل تخرج الأول طبيبًا لكنه مات بعد تخرجه مباشرة. وبعد ذلك لم يكن أمام ذهني في مواجهة رغبة أبيه وحزنه على ابنه إلا أن يصبح طبيبًا، وعلى الرغم من تلك الطريقة التي أصبح بها طبيبًا، فإنه يؤكد أنه يشعر بسعادة حقيقية ولذة فائقة عندما يمسك بالقلب بين يديه ويشعر بأن هذا ما أراده طيلة حياته وما كان يحلم به في عقله الباطن.
حصل على بكالوريوس طب عين شمس وعمل بها كطبيب مقيم بقسم جراحة الصدر والقلب تسع سنوات
قبل أن يقرر المخاطرة بالسفر إلى الخارج لاستكمال الدراسات العليا. فهاجر إلى بريطانيا عام 1977، طريقه كان صعبًا فقد وصل إلى لندن، ولم يكن بحوزته سوى ٣٠ جنيهًا استرلينيًا فقط لا غير، وكان عليه أن يجد عملًا بشكل سريع، وهذا لم يكن سهلًا في ظل المنافسة مع أبناء البلد الأصليين، غير أنه تمكن من التغلب على تلك الظروف، مؤمنًا بأنه إذا أردت أن تحصل على وظيفة ممتازة في بلد أجنبي فعليك أن تكون أكفأ من أبنائه عشر مرات، كافح واجتهد وحصل فراج على شهادة الزمالة قبل أن يدخل عامه الثلاثون وكان أصغر طبيب يحصل عليها، وبعد عشر سنوات أصبح استشاري جراحة القلب في مستشفى جامعة لندن، ثم أصبح رئيس القسم بعدها، وافتتح عيادة في شارع هارلي في لندن، وهو الشارع الأشهر لكبار الأطباء، وأصبحت له بعدها شهرة عالمية، ويفد مرضاه إليه من كل بلاد العالم، ولم ينس فراج مصر بعد نجاحه وكثيرًا ما يعود إليها لإجراء العمليات الجراحية المجانية.
إن سر نجاح ذهني في الالتزام بما يجب أن يكون طبيب القلب عليه، فقد كان متفرغًا بشكل تام للمهنة ويفكر فيها ٢٤ ساعة في اليوم، موضحًا لي في حديثه أن على أسرة الجراح أن تراعي ذلك وتساعده، مؤكدًا أن جراحة القلب لا تحتاج إلى الجراح فقط، ولكن إلى فريق محترف عاشق للمهنة، لأن المجموعة القائمة بالجراحة أشبه بـ"فريق الكرة". إنه ينسي كل شيء حين يمسك بقلب الإنسان في يده ويستشعر قدرة الخالق، حيث إنه العضلة الوحيدة التي تعمل بشكل متواصل دون توقف طيلة حياة الإنسان.
ويعمل ذهني 79 عامًا مستشارا لمستشفى وستمنستر الجامعي بمدينة لندن، وحقق إنجازات عالمية منها أنه أول من ابتكر وسادة طبية تحمل اسمه وتستخدم لتبريد عضلة القلب أثناء الجراحة، وهو من أدخل الموسيقى الكلاسيكية إلى حجرة العمليات وأجرى الجراحة على أنغامها، كما أنه استطاع أن يقلل من الزمن الذي تستغرقه عمليات نقل الصمامات وترقيعها.
إنه واحد من الطيور المهاجرة التي تركت الوطن لتصل إلى أعلي المراتب خارجه، لا سيما بعد أن أكدت جميع الصحف الإنجليزية والمراجع الطبية أنه الأفضل في مجال إجراء عمليات الشريان التاجي.
وإذا كانت مصر قبلة الطيور المهاجرة حول العالم وهي رزق من السماء لأهالي منطقة وادي البحر الأحمر، فأبناؤنا المهاجرون واطباؤنا منهم منحة من العطاء تغرد بالخير على دول العالم.
وعنهم سنحكي الكثير عن قصصهم ونجاحاتهم.