عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
"لبلبة" وهدم السجون والفلسفة العقابية التقليدية

من وادي النطرون إلى العاشر من رمضان و15 مايو وأخميم

"لبلبة" وهدم السجون والفلسفة العقابية التقليدية

جمعتني الصدفة بالفنانة لبلبة، تلك العظيمة التي تركت بصمة في السينما والدراما المصرية، وما زال عطاؤها ممتدًا لتطل على جمهورها في رمضان هذا العام ضيف شرف، عبر عمل وطني يخلّد بطولات أبطال الكتيبة 101 التي حققت إنجازات في معركة تطهير سيناء من الإرهاب.



 

مصادفة جلست بجواري في قاعة مؤتمرات مركز الإصلاح والتأهيل بالعاشر من رمضان، خلال إعلان افتتاحه التجريبي، بحضور السيد اللواء محمود توفيق وزير الداخلية، والمستشار القدير عمر مروان وزير العدل، والسيد المستشار حمادة الصاوي النائب العام، ولفيف من الشخصيات الدولية المعنية بملف حقوق الإنسان وقيادات إعلامية.

 

مع كل شرح لمكونات المركز، تنفعل الفنانة القديرة لبلبة هامسة في أذني "مش معقول هذا حلم"، وإذا بالعرض يصل إلى حضانات الأطفال وما بها من ألعاب ترفيهية فتتساءل: "في أطفال في السجن"، أجيب بعض النزيلات تبدأ قضاء العقوبة وهي حامل، وبعضهن يكون لديهن أطفال في عمر الرضاعة، لذا روعي حقوق هؤلاء الأطفال فلا ذنب لهم.. ترد: "مش معقول لم يتركوا شيئًا إلا وعملوا حسابه".

 

انبهار الفنانة لبلبة، الذي زاد خلال جولتها التفقدية لتشاهد على أرض الواقع ما تم تقديمه بالقاعة، نابع من استدعاء ذاكرتها لصورة السجون القديمة، تلك التي صوّرت بداخلها بعض أعمالها السينمائية، تتذكر سجن وادي النطرون الذي صوّرت فيه دور السجينة "سامية" في فيلم "سيقان في الوحل"، عام 1976.

 

تتذكر "عواطف السلموني"، في "الشيطانة التي أحبتني" 1990، ابنة البروفيسور زعيم عصابة السرقة، فقد رأت السجون التقليدية رؤية العين، والآن ترى عالمًا آخر يولد في الجمهورية الجديدة، تلك الجمهورية التي وضعت استراتيجية قومية لحقوق الإنسان، وفي القلب منهم من يخضعون لعقوبات بأحكام قضائية.

 

"لابد للدراما والأعمال السينمائية التي تناقش قضايا الواقع الآن، أن تنقل ما حدث من تطوير عالمي للسجون، كما كانت تنقل الواقع السابق، لابد من نقل حقيقة الواقع الجديد الآن"، رسالة تبعث بها الفنانة القديرة للمنتجين والمخرجين، لا تخلو من دلالات.

 

وإن كانت الفنانة أبهرها ما تراه للمرة الأولى، فهي كما ذكرت لي أول مشاركة لها في افتتاح مركز للإصلاح والتأهيل، فقد شرفت بحضور كل الافتتاحات التجريبية لسلسلة مراكز الإصلاح والتأهيل، التي كان أولها مركز الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون.

 

الحقيقة، إنجاز كبير للدولة المصرية ووزارة الداخلية، وتفعيل عملي لاستراتيجية حقوق الإنسان، لا يقتصر على بناء منشآت عقابية تُراعي الاشتراطات البيئية والصحية فقط، بل بناء لفلسفة عقابية جديدة بمفاهيم علمية تستهدف إصلاح الفكر والتأهيل ليخرج النزيل بعد قضاء عقوبته إنسانًا جديدًا قابلًا للاندماج في المجتمع.

 

في مصر 48 سجنًا عموميًا، تم هدم 12 منها فعليًا، لينتهي بهدمها تاريخ من المعاناة للسجناء، كانت تزداد مع ضيق المساحة ومحاصرة العمران للسجن، وتردي الخدمات الناجمة عن تقادم المنشآت، فمهما يُبذل من جهود للإصلاح لا تتحقق المعدلات المستهدفة.

 

مراكز الإصلاح والتأهيل، التي أنجزت حتى أمس، 6 مراكز، موزعة على جميع أنحاء الجمهورية، "وادي النطرون، وبدر، والعاشر من رمضان، والقطا، و15 مايو، وأخميم بسوهاج".

 

في كل هذه المراكز حياة أخرى، روعي في كل مركز منها روعة التصميم واتساع المساحات، وتنوع الخدمات ومراعاة المواصفات الفنية في الإنشاءات، بحيث تتوافر التهوية والإضاءة الطبيعية في الفترة النهارية؛ لحماية صحة وسلامة النزلاء.

 

نعم نزلاء لا سجناء، فقد رحل لفظ سجين مع رحيل السجون التقليدية، وولد مصطلح نزيل مع ميلاد مراكز الإصلاح والتأهيل، فهي ليست مكانًا للعقوبة، بل للإصلاح والتأهيل الحقيقي.

 

في مساحة 420 فدانًا توزعت المنشآت ما بين عنابر للنزلاء، ومكتبات وحضانات للأطفال، ومستشفى مجهز بأحدث الإمكانات وغرف العمليات، التي تقدم الخدمة الطبية للنزلاء في الحالات الحرجة فتوفر المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها النزيل، خلال نقله لمستشفى خارجي.

 

هناك، في ذلك المركز الذي يشبه المدينة الصغيرة، مراكز للتحكم، وقاعات للزيارات، وأماكن لانتظار أسر النزلاء، وخدمات تنقلهم إلى قاعات الزيارة.

 

النزيل هنا يُمنح فرصة للإبداع، فهناك في كل مركز، مسؤولون عن اكتشاف المواهب الفنية، وتمكينهم من تنميتها وتوفير المتخصصين.

 

هناك مُتاح للنزيل المكتبات، وقاعات للدراسة؛ ليستكمل من يرغب تعليمه، ومدرسة فنية تؤهل النزلاء ممن لم يكملوا تعليمهم لاكتساب مهارة وصنعة تخلق له فرصة عمل خلال فترة العقوبة، وبعد الخروج للاندماج في المُجتمع.

 

في كل مركز مزارع دواجن بطاقة كبيرة، ومصانع أعلاف، ومزارع تربية ماشية وصوب زراعية وورش لصناعة الأساس، يعمل بها النزلاء نظير أجر شهري، يكتسبون الخبرات، الخبرة والمهارة، ويملكون دخلًا ماديًا ينفقون منه على متطلباتهم، ويدعمون به أسرهم أو يدخرونه لحين خروجهم لبدء حياة جديدة مع تذكرة خروج بلا عودة.

 

ليست شهادتي وحدي عما يتحقق من إنجاز، بل شهادات دولية وأممية، فهناك كان معنا الدكتور عادل العسومي، رئيس البرلمان العربي، الذي وصف مراكز الإصلاح والتأهيل، بأنها "تغيير جذري في مفهوم وفلسفة المؤسسات العقابية، وتطبيق عملي لحقوق الإنسان".

 

فيما رأت ميرنا بو حبيب، نائب الممثل الإقليمي لمكتب الأمم المتحدة، المعني بمكافحة المُخدرات والجريمة المنظمة، أن مراكز الإصلاح والتأهيل تعكس رؤية الدولة المصرية الواضحة لحماية حقوق الإنسان، مشيدة بما يطبق عمليًا من إجراءات لاستبدال السجون القديمة، مشيدة بوزارة الداخلية والتعاون البناء معها بعدد من مراكز الإصلاح.

 

"إصلاح للسلوك والأفكار وطفرة نوعية في المعاملة العقابية"، هكذا وصف السفير خالد البقلي مساعد وزير الخارجية لحقوق الإنسان والمسائل الاجتماعية والإنسانية، ما شهده في مراكز الإصلاح والتأهيل.

 

الحقيقة، أن تلك المراكز ليست مجرد بديل عن السجون التقليدية التي أعلن اللواء طارق مرزوق مساعد وزير الداخلية لقطاع الحماية المجتمعية، هدم 12 سجنًا عموميًا وإزالتها تمامًا، بعد انتقال نزلائها إلى مراكز الإصلاح والتأهيل، ليبدأ هدم 15 سجنًا عموميًا أيضًا، فأصبحت مراكز الإصلاح هدم للفكر العقابي السابق، وبناء لاستراتيجية إصلاح نفسي وفكري وسلوكي للنزلاء.

 

فهناك علماء نفس وعلماء دين، يلتقون النزلاء، ويتم تقسيمهم بشكل علمي، فقط، تقاربهم في نوعية الجرائم والاحتياج الإصلاحي، يخضعون لبرامج إصلاح فكري وسلوكي مخططة علميًا، والكثير من الذين يعاقبون للانتماء لفكر متطرف تم إصلاح فكرهم وراجعوا أنفسهم، ومنهم من أكد أن التواجد في مركز الإصلاح وتنفيذ العقوبة أفضل ألف مرة من استمرارهم في صفوف المتطرفين.

 

القضية ليست منشآت آدمية، وهدم منشآت قديمة بل هدم لفكر عقابي وفلسفة تقليدية، وصياغة فلسفة جديدة تقيد حركة الجسد لا النفس، تقيد الجسد داخل محيط متسع لا زنزانة مغلقة، تستثمر طاقة النزيل في العمل والإنتاج واكتساب المهارة والرزق، لا في تحطيم المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، كما كنا نشاهدهم في الأعمال السينمائية.

 

في مراكز الإصلاح والتأهيل تُحترم حقوق الإنسان، الذي يقضي العقوبة، لا يقضي عقوبته في أشغال شاقة بل في إبداع وإنتاج واكتساب مهارات وحرف، يُنتج ويتقاضى أجرًا، يدخر جزءًا منه لقادم الأيام؛ ليبدأ حياة جديدة خارج أسوار المركز.

 

كما هدمت السجون القديمة، وتحقق من عائد أرضها في المدن ما يفيض عن كلفة بناء مراكز حضارية بأحدث المعايير العالمية للمؤسسات العقابية، ويجب هدم الصورة الذهنية عن السجون التقليدية، التي رسّخت طيلة عقود، فالواقع تغير حقًا.

 

وربما هنا للدراما والسينما التي رسّخت صورة سجون الماضي، دور مهم في بناء صورة ذهنية للواقع الإصلاحي الذي تشهده مراكز الإصلاح والتأهيل، حتى مشاركة بعض السجناء في الحديث للكاميرات في "وثائقي"، تم بموافقتهم الكاملة احترامًا لحقهم في الخصوصية.

 

تحية للرئيس عبدالفتاح السيسي، مؤسس الجمهورية الجديدة، وصاحب المبادرات الإنسانية، في مقدمتها سجون بلا غارمات، وتحية للواء محمود توفيق وزير الداخلية، ولكل أبطال مصر في القوات المسلحة والشرطة المصرية.  

وكل عام وشعب مصر في تقدم ورخاء، بمناسبة شهر رمضان الكريم.

[email protected]

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز