عاجل
الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

سماتُ العمارةِ الطينية في غرب إفريقيا

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

 



أدى عدم توافر الأحجار والكتل الصخرية في أكثر بلاد غرب إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إلى الإقبال بشكل لافت على استخدام الطين في البناء، وهو ما ساهم في وجود حالة من التوافق، أو الهارموني، بين عمارة المدن الصحراوية والبيئة المحيطة بها، واعتماد السكان المحليين على استعمال الطوب اللبن بدلًا من الكتل الحجرية الصلبة في كل ما يرتبط بالبناء الخاص بهم.

ومن ثمة ازدهرت العمارة الطينية، واتسعت رقعتها في بلاد السودان جنوب الصحراء التي تمتد من سواحل المحيط الهندي غربًا، وحتى سواحل البحر الأحمر وشرق إفريقيا إلى الشرق. ولا شك أنه تطورت أنماط العمارة الطينية منذ القدم، في بعض مناطق الصحراء الإفريقية، وكذلك في المناطق القريبة منها، حيث استخدمت مواد البناء من الطوب المُقولَّب مع بدايات العصور التاريخية، كما ذاعت مواد البناء من الطين المحروق، والقرميد، وكذلك الخرسان المُقولّبة، والتركيبات الخشبية.

كما تطور البناء في العمارة الطينية في بعض مناطق الصحراء باستخدام قوالب "الطين المدكُوك"، أو "اللبن المدكوك" لا سيما في الصحراء المغربية، كما تطورت أنماطٌ جديدة من خليط الطين باستخدام مواد أخرى.

ويشير الأثريون، بناءً على الاكتشافات الحديثة، إلى المواد التي كانت متاحة للبناء في بعض نماذج البيوت والمباني التي كشف عنها في المدن الأثرية القديمة الغرب الإفريقي مثل كومبي صالح، وأودغست وغيرها، حيث وفرت فيها البيئة الصحراوية المواد الأساسية للبناء أمام العمال والبنائين، وكان أبرزها: ألواح الخشب، والطين، وكذلك بعض الحجارة.

وينتقد بعضُ المؤرخين القدامى بساطة "العمارة الطينية" التي كانت ولا تزال منتشرة في مدن وقرى هذه البلاد، وأشاروا إلى أنها تنم عن فقر في مهارات العمران، والبناء، ولعل من ذلك ما يذكره العلامة ابن خلدون "ت: سنة 808هـ" من قوله: "فُقدان صَنعة البناء في أرض السودان"، ويُقصد بها بالطبع بلاد غرب إفريقيا وجنوب الصحراء.

وتلك وجهة نظر ربما تكون لها وجاهتها بالطبع لاسيما من جانب العلامة ابن خلدون على قدر مكانته السامقة، ومع ذلك، فإنه يجب القول بأن الصحراء فرضت على الأفارقة القاطنين في جنوب الصحراء ما يمكن أن تقدمه لهم تلك البيئة الصحراوية من مادة بسيطة، وهذا أمر طبيعي لا يمكن لنا أن نلومهم على ذلك، لأن هذا نمط واضح من أنماط العلاقة بين الإنسان من جانب، والطبيعة والبيئة الإيكولوجية المحيطة به من جانب آخر.

ولعل هذا يتوافق مع قول ابن خلدون حول اختلاف العمران بين الأمم، حيث يذكر: "ثم تختلف أحوال البناء في المدن، كل مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه، ويناسب مزاج هوائهم، واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر". وهو كلام يبدو منطقيًا، فليس العمران، أو فن البناء، واحدًا على ذات النسق أو درجات المهارة والحذق بين كافة الأمم والشعوب في الأرض، فهو يختلف من شعب لآخر، ومن موضع جغرافي لآخر.

وكان البناؤون في العديد من المدن في غرب إفريقيا يستخدمون بعض الأحجار، أو الكتل الصخرية لتكون بمثابة قاعدة البناء الذي سوف يشيده من الطين فيما بعد، ويبدو أن الغاية من ذلك لتكون تلك الكتل الحجرية بمثابة أساس صلب للمبنى المراد تشييده، حتى تتحمل البناء عوامل الطبيعة، وتأثيرات الزمن.

ويعني ذلك أن العديد من المباني كالبيوت والمساجد وغيرها لم تكن في الغالب تخلو من بعض الحجارة في العديد من المدن الأثرية القديمة في غرب إفريقيا، وفي أكثر مناطق جنوب الصحراء بصفة عامة، وهو ما كشفت عنه الدراسات الأثرية.

واستخدمت ذات الطريقة في العديد من المدن الإسلامية الكبرى، حيث تكشف التنقيبات الأثرية بمدينة الفسطاط القديمة "القاهرة القديمة" أن أساسات بيوت المدينة كانت مشيدة من الأحجار، بينما كانت جدران البيوت تبنى من الآجر، وقوالب الطين.

وعن استخدام الطين والحجر في جنوب الصحراء، ومناطق غرب إفريقيا، يذكر فيرني: "لقد استخدم الطين كرابط في الجدران الحجرية، كما استخدم اللبن الطيني المُجفف، وكطلاء في تكداوست، تقع في موريتانيا، مثلًا شيدت جدران من الفترة الثانية من لبن الطين فوق صرح من الحجارة.. ويطغى على هذا المستوى استخدام اللبن الطيني لتشييد الجدران، مع وجود قاعدة حجرية لبعضها".

وشهدت مدينة تكداوست القديمة في موريتانيا ازدهارًا في العمارة والبناء بهذه الطريقة، حيث كانت أرضية الكثير من المباني والبيوت التي كشف الأثريون عنها في أطلال هذه المدينة أن البنائين بها كانوا يستخدمون قوالب الطين المُجفف، واستخدم البناؤون الطين كرابط في الجدران المُشيدة من الأحجار، كما استخدموا الطين بهدف تبليط الحجرات.

وكانت الأرضية في العديد من الحجرات الأثرية التي تم الكشف عنها حديثًا في تلك المدينة مُدعمة بقوالب "الطين المحروق ""Burned- bricks، وكذلك كان الحال في بعض الأماكن الأخرى مثل ساحات البيوت التي عثر عليها في ذات المدينة. وعلى هذا، أقبل البناؤون وساكنو الصحراء على استعمال "الطين"، أو قوالب الطوب، ومن ثمة ذاع هذا الطراز من العمارة في هذه البلاد، وأقاليمها المترامية الأطراف بشكل لافت، وعلى نطاق واسع.

وكان منطقيًا أن يشيد السكان في غرب إفريقيا بيوتهم وقصورهم على اختلاف أشكالها، وأحجامها، وكذلك المساجد ذات الحجم الهائل من الطين المأخوذ من رمال الصحراء، إضافة إلى تشييد القبور والمدافن التي أقاموها من ذات المادة مع اختلاف في جودة البناء بحسب كل شخص، ومدى ثرائه.

ولا شك أن الفنون والعمارة في غرب إفريقيا الإسلامية تميزت بالعديد من السمات لا سيما في كبرى المدن مثل: مدن جاو، وجني، وتمبكتو، وتقع تلك المدن الثلاث في مالي حاليًا، إضافة لمدن أخرى كانت لها أهميتها في تاريخ غرب إفريقيا على غرار: كانو، وكاتسينا "في نيجيريا حاليا".. إلخ، وكذا غيرها من المدن والحواضر القديمة الأخرى في جنوب الصحراء.

وارتبط هذا النمط بالمدن الصحراوية، وهو الطراز التقليدي البسيط المعروف بـ"العمارة الطينية"، أو "العمارة الترابية"، وكذلك "عمارة الآجر" بحسب آخرين حيث كانت المباني التقليدية المحلية خاصة في العديد من المدن القديمة في غانة، ومالي، وصنغى، تُشيد باستخدام "الطين المضغوط"، وهو نوع من الطين المحلي المخلوط بالتبن، أو القش.

ويمكن القول بأنه في هذه المنطقة كان للمواد العضوية المستخدمة في "العمارة الطينية" غاية مهمة، وهي استخدامها بهدف تقوية قوالب الطوب، ويستخدم ضمن هذه القوالب المصنوعة من الطين أكثر من 3 أو 4 مواد مختلفة، هذا إضافة للمادة الرئيسية، وهي الطين، حيث تدخل بعض الخامات الجيرية والجصية، وكذلك بعض الرمال الحصوية إضافة لمواد عضوية رئيسية، وهي المواد النباتية التي تتمثل في العديد من الأشكال، مثل قش الأرز أحيانًا، وكذلك تبن القمح الجاف، وبعض النباتات العشبية الأخرى التي تتوافر في مختلف البيئات.

ولقد كان للقش أهمية لا يمكن الاستغناء عنها في "العمارة الطينية"، إذ تساعد تلك المادة في تماسك جزيئات الطين مع بعضها البعض، كما أنها تعمل على زيادة امتصاص كميات الرطوبة الموجودة في مادة الطين، وهي تسهل عمليات المعالجات الخارجية والداخلية للجدران بعد البناء، خاصة إذا استخدم البناؤون مادة الجص، بحيث يساعد القش على تماسك طبقاتها، وبقائها لمدة طويلة دون أدنى تغييرات تذكر.

ومن ناحية أخرى، فإن تعريف "القش" عند اللُغويين بشكل مبسط: هو ما يتخلف من القمح أو الأرز ونحوهما بعد أن يتم استخراج الحب منهما.

أما جمع كلمة "القش" أو "قش": قشوش، والقشة: هي واحدة القش.

ويمكن القول بأنه ارتبط بانتشار "العمارة الطينية" البسيطة قلة المهارة لدى السكان المحليين في غرب إفريقيا، حيث إنها الطريقة الأسهل في البناء مقارنة باستخدام العمارة الحجرية التي تحتاج مجهودًا أكبر من قبل عمال البناء والمهندسين، لا سيما قطع الكتل الحجرية، ونقلها، وكذلك رفعها خلال عملية البناء، وهو ما أشار إليه ابن خلدون عن طبيعة العمران في تلك البلاد، وعن تلك الرؤية يقول أحد الباحثين: "يشير ابن خلدون إلى فقدان صنعة البناء بأرض بلاد السودان".

وتلك الرؤية ربما ترتبط من ناحية أخرى بعدم توافر الأحجار في هذه البلاد بسبب امتداد البيئة الصحراوية، ومن ثم قلة الجبال والصخور، وكذلك يرتبط بتلك الرؤية عدم تعود السكان المحليين في غرب إفريقيا على النمط المعماري باستخدام الصخور والأحجار الضخمة التي ربما قد يزن بعضها مئات الكيلوجرامات.

ومادة "القش" ذاتها كانت يستخدمها العمال والبناؤون في غرب إفريقيا بهدف تسقيف البيوت، أو بمعنى آخر لعمل السقوف في بعض البيوت المتواضعة في العديد من مناطق السودان الغربي، وتلك البيوت- على أي حال- بنيت في هيئة الكهوف البسيطة، على غرار تلك التي سكنت بها شعوب البمبارا، والديولا، وغيرهما من شعوب غرب إفريقيا ممن ذاعت عندهم تلك البيوت ذات الطرز البسيطة في البناء.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز