عاجل
الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

المعادنُ ورمزيتها في التصور الإفريقي الميثولوجي

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

نتحدثُ بشيءٍ من الإِيجاز عن أبرز المعادن التي كشف عنها في صحراء القارة الإفريقية منذ أقدم العصور لاسيما في منطقة غرب إفريقيا (أو السودان الغربي)، وذلك من خلال التعرف على أهم تلك المعادن التي ظهرت في تلك المناطق الصحراوية، ورمزيتها في اللاهوت المحلي القديم خاصة التراث الوثني الإفريقي، ورمزية ذلك، ومدى ازدهار الصناعات والفنون المعدنية، ومدى ارتباط ذلك بالعمارة وفنونها على غرار ما هو موجود في أي مجتمع من المجتمعات البشرية. 



وتعد إفريقيا من أكثر قارات العالم ثراءً وغنى بالثروات الطبيعية بصفة عامة، ولاسيما المعادن المختلفة، خاصة الذهب، والنحاس، وكذلك الحديد..الخ. ولعل وجود العديد من الثروات الطبيعية الأخرى لاسيما البترول، والغاز..الخ، وغير ذلك من الثروات الطبيعية الأخرى لتعد من الأدلة التي تؤكد أن الصحراء كان لها تاريخٌ مُزدهرٌ منذ حقب الماضي السحيق. 

وكانت الصحراء تعج بمظاهر الحياة البشرية والحيوانية بشتى أنماطها عبر آلاف السنين، وما تلك الثروات إلا نتاجٌ لها في الغالب لاسيما البترول والغاز الطبيعي، فهي تتكون في الأصل منها. ومن ناحية أخرى، كانت للمعادن والصناعات المعدنية بشتى صنوفها في العديد من مناطق الصحراء أهميةٌ كبيرة في حياة السكان في غرب إفريقيا عبر التاريخ.

وكان إقبال الناس عليها بهدف توفير الحاجات والأدوات الأساسية منها التي كانوا يحتاجون لها في أمور حياتهم. ولعل كثرة وجود المعادن والثروات الطبيعية في قارة إفريقيا أدى ذلك غلى أن اهتم الأوروبيون بالسيطرة على الثروات المعدنية في القارة الإفريقية لاسيما معدن الذهب. 

ولاشك أن المعادن كانت لها رمزية دينية لايمكن تجاهلها، هذا إضافة لأهميتها الفنية في لدى تلك الشعوب القديمة، وحتى يومنا هذا.  وتبدو أهمية دراسة المعادن في أي مجتمع بشري تقليدي على غرار المجتمعات في إفريقيا جنوب الصحراء من ناحية أخرى، بسبب ارتباط العديد من تلك المعادن التي تم الكشف عنها محليًا في الميثولوجيات والإيديولوجيات الإفريقية القديمة، وهو ما سوف يكون لنا معها عدة وقفات في ثنايا هذا الكتاب. 

فعلى سبيل المثال، تعتبر مهنة "الحِدادة" من أهم الحرف وأقدمها التي اشتهرت في العديد من المجتمعات الإفريقية القديمة، ولقد كانت لبعض الشعوب نظرة رمزية ودينية لها، إذ إن صاحب تلك الحرفة التقليدية- أي حرفة الحدادة- في منظور بعض المجتمعات أنه شخص حرفي، أو صاحب حرفة، ولكن كان يخشاه أكثرُ الناس، لأنه على اتصال بالنار، وهي المادة الطبيعية المرتبطة بقوة بمعدن الحديد Iron وصناعته.

 كما أن الحديد يُشكل جانبًا مهمًا من تلك الأمور التي ترتبط بأعمال السحر والشعوذة، وما شابهها من الأعمال والطقوس البدائية التي كانت تذيع في بعض المجتمعات التقليدية على غرار شعوب غرب إفريقيا منذ القدم. 

ومن المعروف أن السحر وما ارتبط به من طقوس كانت ولاتزال منتشرة بين الشعوب الإفريقية. وكانت بلاد التكرور تشتهر بالسحر، وهو ما أشارات إليه العديد من المصادر التاريخية لاسيما الإفريقية منها، ولعل من ذلك أن المؤرخ الإفريقي موسى كامرة جعل عدة فصول من كتابه زهور البساتين لها عناوين خاصة بذلك، ومنها: "ذكر بعض أعمال سحرة بلاد التكرور، وكيفية اتقائها"، وكذلك وضع عنوانًا آخر يرتبط بذات الفكرة والتصور، وهو: "مداواة الممصوص ورقية المسحور"..الخ. 

ومما قاله هذا المؤرخ الإفريقي عن هؤلاء السحرة: "وأما سحرة أرضنا بلاد التكرور الذين يقال فيهم إنهم يمصون دم الشخص، ويسلون قلبه، فإن ذلك مجرد تخويف فقط، وترويع محض لاغير..". 

وتشير الدراساتُ الحديثة إلى أن الإنسان الإفريقي القديم كان قد استخدم معدن الحديد منذ أقدم العصور، وقام بعمل الأدوات المعدنية منه منذ قرون عديدة قبل الميلاد. ولقد تم الكشف في أحد المواقع الأثرية القديمة الواقعة في النطاق الصحراوي، وتحديدًا في غرب السنغال، وهذا الموقع اسمه: "ديديه" (ديدي) Dide، عن العديد من قطع الحديد المُصنعة، وتلك الأدوات المعدنية يؤرخها الأثريون لحوالي سنة 400 ق.م. 

وكان معدن النحاسCopper  يأتي في الأهمية بعد كل من الذهب والملح، وكانت لهذه المعادن أهمية كبيرة لدى السكان في بلاد غرب إفريقيا. ويمكن القول بأنه كان لمعادن الذهب والنحاس أهمية رمزية ودينية، وهو ما سوف نتناوله بشيء من الإسهاب بعدئذ في ثنايا الكتاب لاسيما الذهب، حيث ارتبط معدن الذهب على وجه الخصوص، ووجوده عبر التاريخ بالمناطق الصحراوية، والجبال، وكذلك ارتبط بالقوافل التي كانت تحمل الملح وغيره من السلع الأخرى لمقايضتها به. 

كما توجد مناجم النحاس في آراضي قارة إفريقيا لاسيما في مناطق الغرب الإفريقي، وإن كان وجود معدن النحاس أقل توغرا بها وذلك مقارنة بالذهب ومناجمه، غير أنه من الملاحظ أن النحاس يبدو قليلاً في آراضي القارة الإفريقية بصفة عامة سوى في مناطق وسط إفريقيا. وتعتبر منطقة تكدا في وسط الصحراء من أهم المناطق التي تضم مناجم النحاس بالصحراء الكبرى. 

وكان النحاس يستخدم في الصناعات الحربية، وكذلك في عمل الأواني النحاسية، وكذلك لعمل أدوات الزينة، وغيرها من الاستخدامات الأخرى. 

وبخصوص الذهب Gold، تُعد الصحراء الكبرى من أكثر صحاري العالم التي ارتبطت بالذهب، وتجارته منذ أقدم العصور، حتى أطلق على تجارة هذا المعدن: الذهب الصحراوي، ولهذا فليس من المستغرب أن يُطلق عليها أيضًا: "صحراء الذهب". 

وكان معدن الذهب يرتبط بالعديد من الميثولوجيات الدينية والرمزية في ممالك غرب إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى على غرار أسطورة الثعبان بيدا، أو أسطورة أمطار الذهب التي ذاعت في العديد من ممالك غرب إفريقيا لاسيما غانة، والتي من خلالها وضع شعب غانة القديم تصورهم الميثولوجي المعقد لفكرة ظهور معدن الذهب، وكذلك كثرة مناجمه في هذه البلاد. 

وكان السُكانُ المحليون في "مملكة غانة" القديمة يؤمنون على غرار غيرهم من الشعوب الأخرى في الغرب الإفريقي، أن "الذهب" من المعادن الثمينة ذات القداسة، كما أنهم- في ذات الوقت- يُعدُون معدن الذهب من خلال اعتقادهم الديني الواسع بأنه من الأملاك الخاصة بالآلهة والأرباب. ويرتبط هذا التصور ببعض التصورات الميثولوجية القديمة التي كانت رائجة في "مصر الفرعونية" حيث تشير الأساطير في مصر القديمة أن الذهب معدن خالد، أزلي، وأن أجساد الأرباب والمعبودات المزعومة التي اخترعها الكهان بالطبع كانت مخلوقة من مادة الذهب. 

ويُعتقد أن العديد من التأثيرات المصرية كانت قد وفدت من مصر إلى غرب إفريقيا. وفيما يخص التأثيرات المصرية في غرب إفريقيا، لاحظ العلماء وجود العديد من التأثيرات الفنية المصرية وانتشار بعض الحرف المرتبطة بالصناعات المعدنية في غرب إفريقيا منذ أقدم العصور، من أبرزها ما كشف عنه في آراضي نيجيريا القديمة حيث ظهرت بها ممالك بلاد الهوسا. 

وبالتأكيد ما يجعل انتشار مثل تلك الأفكار المصرية فيما يخص الحرف والصناعات يجعل أمر التأثيرات اللاهوتية والأيديولوجية والطقوس الدينية أمرًا محتملاً. 

وعن ذلك التأثير المصري، يقول ب. أمور تالبوت: "وعلى أية حال، فالأكثر احتمالاً أن هذه الحرفة وصلت إلى نيجيريا من مصر عندما انتشر المنقبون الباحثون عن المعادن في مختلف الاتجاهات بحثا عن مصادر الثراء كالذهب والنحاس واللازورد..". 

ويبدو أن تلك الفكرة التي ذاعت بين العديد من القبائل في غرب إفريقيا ربما تكون هي في الأصل فكرة مصرية قديمة، وأن مثل هذه الأفكار وصلت لتلك البلاد بشكل أو بآخر قادمة من مصر بفضل التواصل الحضاري بين تلك الشعوب (اي المصريين وشعوب غرب إفريقيا القديمة) منذ القدم. وربما يؤيد ذلك أن بعض قبائل إفريقيا جنوب الصحراء يربط البعض بينها وبين مصر القديمة، ولعل من خلال انتشار بعض الأفكار والمعتقدات المصرية في هذه البلاد. 

ومن ناحية أخرى فمن خلال ذات "المنظور الأيديولوجي"، والميثولوجي في ذات الآن، لدى العديد من شعوب غرب إفريقيا، فإن معدن الذهب يُعتبر الأخ الأصغر لمعدن النحاس. 

ويُرجح أن ذلك نظرًا لوفرة الذهب أكثر من غيره من المعادن الأخرى، ولذلـك ربما كانوا يجعلون الذهب رغم قيمته في مرتبة أدنى من معدن النحاس. وتؤمن بعضُ القبائل الأخرى في مناطق غرب إفريقيا بأن الذهب يبدو في صورة ميثولوجية أخرى، إذ إنه كان يُمثَل في هيئة كائن حي، ويُعتقد أن حيوانًا وحشيًا يسكن جوف الأرض يتغذى على الدماء، وهو يفرز مادة الذهب من جسده. 

ويبدو أن تلك "الفكرة الرمزية غير بعيدة عن ذات "الفكرة الميثولوجية" الأخرى التي تصورهـا تلك الميثولوجيا الشعبية المعروفة باسم: أُسطورة "الثُعبان المقدس وأمطار الذهب". ويبدو ذلـك التصور فريدًا من نوعه من حيث قدُرة تلك الشعوب والقبائل الإفريقية القديمة على ابتكار أنماط من التصورات الشعبية والميثولوجية المتنوعة في ذات الآن، والتي تتلائم بدورها مع ثقافة تلك الشعوب البدائية القديمة، ورؤيتهم حول أصل "الذهب"، وكيفية وجوده وانتشاره في بلادهم، وارتباط ذلـك التصور الرمزي واللاهوتي ببعض الحيوانات مثل "الثعبان المقدس"، أو "الحية"، أو "الكوبرا"، وهي "الكائنات الحامية" بحسب موروثهم القديم، واعتقادهم بأنها السبب في ظهور الذهب في جوف الأرض في تلك البلاد.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز