محمد بغدادى
تراثنا الإنساني في خطر!
في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي.. وعبر فيلم تعريفي مدته سبعون دقيقة.. أعلن الرئيس التنفيذي المؤسس لشركة فيس بوك (مارك زوكربيرج) عن تغيير اسمها إلى (ميتا فيروس) وهو نوع من الإنترنت التفاعلي.. يتم تقديمه في صورة ثلاثية الأبعاد..
ووصف مارك الميتا فيروس بأنه: (بيئة افتراضية).. وهذا معناه أنه يمكنك الدخول إليها بدلًا من مجرد النظر إليها على الشاشة.. ويمكن للأشخاص الالتقاء والعمل واللعب باستخدام سماعات الواقع الافتراضي أو نظارات الواقع المعزز أو تطبيقات الهواتف الذكية أو الأجهزة الأخرى.. وقد ظهر مصطلح ميتافيرس لأول مرة من خلال رواية الخيال العلمي: Snow Crash) أو تحطم الثلج) والتي ألفها الكاتب (نيل ستيفـنسون Neil Stevenson) عام 1992.. وتدور أحداثها حول تفاعل البشر..
من خلال الشبيه أو القرين الافتراضي (أفاتار).. وفي عام 2009 ظهر فيلم (أفاتار) والذي يجب أن تشاهده من خلال نظارات الأبعاد الثلاثية (D3).. وتقنية الميتا فيروس تدخلك إلى عالم شبه حقيقي عبر فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد مدعوم بتقنيات الواقع المعزز.. والمقصود بالواقع المعزز هو أن تستعين بنضارة خاصة تريك المشاهد على الشاشة.. فيما يشبه إلى حد كبير العالم الحقيقي.. وعندما حاولت مسؤولة المحتوى السابقة في العملاق الأزرق فيس بوك (فرانسيس هاوجين Frances Haugen) التبليغ عن مخالفات فيس بوك.. وأعربت عن خشيتها من تأثير (ميتا فيروس) في إجبار عالم الواقع الافتراضي المستقبلي على الأفراد وأرادت الإفصاح عن المزيد من معلوماتهم الشخصية أمام مجلس وقالت: "من خلال عملي اكتشفت أن فيس بوك يعمل بشكل يضر الصغار، كما يؤذي الديمقراطية عبر إدمان موقع التواصل والميتا فيروس سيمنح الشركة احتكارا جديدا في عالم الإنترنت".. وقد لقيت شهادتها حول ممارسات الشركة اهتماما عالميا.. كما كشفت الوثائق التي سلمتها إلى السلطات وشهادتها أمام المشرعين عن مشاكل عميقة الجذور في الشركة وضرورة تسريع الجهود التشريعية والتنظيمية في جميع أنحاء العالم لكبح جماح شركات التكنولوجيا الكبرى..
وأشارت إلى أن عملاق وسائل التواصل الاجتماعي (فيس بوك) يعطي الأولوية للمشاركة وزيادة أعداد المستخدمين عبر الإنترنت.. لتحقيق مزيد من الأرباح والسيطرة على العالم.. وكان انقطاع فيس بوك لمدة خمس ساعات في الرابع من أكتوبر 2021.. حيث توقف خلالها العالم كله مذهولًا.. ما هو إلا إنذار مبكر أو (قرصة ودن) من مستر مارك.. ليقول للمحققين والمشرعين (انتبهوا أيها السادة).. لذلك فإن أخطر ما صرح به مارك عبر هذا الفيلم أنه قال: "هذا هو العالم الجديد الذي نريد بناءه.. وستكون قادرا على فعل أي شيء يمكنك تخيله تقريبًا: التجمع مع الاصدقاء والعائلة، العمل، التعلم، اللعب، التسوق، الإبداع.. بالإضافة إلى تجارب جديدة تماما".
وميتا فيروس بالإنجليزية: (Metaverse) وهي كلمة تتكون من شقين الأول meta): بمعنى ما وراء) والشق الثانيVerse) :) مُصَاغ من (universal يونيفرسال أي كوني من الكون).. أي ما وراء الكون أو ما وراء العالم الافتراضي.
ومنذ أيام قليلة- خلال يومي 7 و8 سبتمبر- شرفت بالمشاركة في فعاليات المؤتمر العلمي السابع عشر الذي أقامته جامعة حلوان من خلال الإدارة العامة للمكتبات تحت عنوان: "أدب الأطفال والتراث الإنساني محليا وعربيا وعالميا".. وهو مؤتمر علمي مهم يعقد سنويا تحت رعاية د. حسام رفاعي القائم بعمل رئيس جامعه حلوان.. ود. منى فؤاد عطية نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحوث.. برئاسة د. سهير محفوظ.. والمؤتمر ضم 37 باحثا وباحثة وتضمنت العديد من الأبحاث والأطروحات الهامة المتنوعة.. التي تقدم بها الكتاب والباحثون والمتخصصون في أدب أطفال.. وكانت مشاركتي، تعبر عن مخاوف موضوعية من تقنية (الميتا فيروس) الوافدة إلينا.. وهل نحن مستعدون لاستقبال هذا الوافد الجديد.. بالتشريعات والضوابط التي يمكن أن تحد من مخاطر هذه التقنية على الأجيال الجديدة.. وكيف يمكن مواجهة هذه التحديات وهذه المخاطر.. وما هو السبيل لحماية تاريخنا وتراثنا العربي والإنساني من هيمنتها على عقول أطفالنا وشبابنا.. وكان عنوان البحث الذي تناول مخاطر هذه التقنية بالتفصيل: "التحديات والمخاطر التي تهدد التراث الإنساني عربيًا وعالميًا، السلبيات.. والإيجابيات".
فبعد تصريحات مارك زوكربرج.. وحديثه عن مستقبل التواصل الاجتماعي ثلاثي الأبعاد.. أثار العديد من المخاوف لدى قطاع كبير من ملايين المستخدمين من شكل هذا المستقبل.. وكيفية التفاعل داخله.. وازداد الفزع مما قد ينجم عنه من تأثيرات اقتصادية واجتماعية ونفسية على إنسان العصر.. خاصة الأجيال الشابة وعلى وجه التحديد تأثيراته السلبية على الطفل المصري والعربي.. ممن أدمنوا تمضية الساعات المتصلة داخل هذا العالم الافتراضي.. الأمر الذي أدى إلى أن التليفون المحمول أصبح جزءًا من جسم الإنسان لا يكاد يبرحه.. ولا يطيق أن ينفصل عنه.. وهنا تكمن الخطورة.. وسيطرة هذه الأداة الصغيرة على إنسان هذا العصر.
ولعل أكثر التحديات والمخاطر إثارة للقلق على مستقبل الأجيال القادمة تلك التي تهدد التراث الإنساني عربيًا وعالميًا.. وهذا أخطر ما في هذه التقنية الجديدة.. ولعل أكثرها خطورة أنه عبر تقنية الميتا فيروس يمكن العودة للماضي.. وإعادة صياغته.. ومحو ما استقر في الأذهان من حقائق تاريخية راسخة.. وهنا تكمن الخطورة.. فهناك بالتأكيد أصحاب مصالح سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو تنظيمات دولية.. أو مؤسسات أو تخابر دولية.. وسيكون في مقدورهم عبر هذه التقنية طمس الهويات القومية للشعوب والعبث بمكوناتها.. وإعادة كتابة التاريخ على هواهم.. واستبدال الأحداث والأبطال بأحداث تخدم مصالح فئة معينة من البشر.. وتغيير الأبطال أصحاب الأحداث الحقيقية بأبطال أخرين.. وبذلك يمكن تزيف الحقائق التاريخية الثابتة.. فتهتز الثقة بالبديهيات الراسخة في وجدان الشعوب.. ويصبح تاريخنا وتراثنا العربي.. بل التراث الإنساني برمته لعبة في يد من يمتلك هذه التقنية.. ويمتلك تقنيات إنتاجها وتوجيهها الوجهة التي يراها تحقق مصالحه.. وتضر بأجيال بأكملها من الشباب والصبية والأطفال الذين تحول الهاتف المحمول إلى جزء من جسدهم لا يفارقهم.. ولابد أن نعلم من واقع الإحصاءات الرسمية.. أنه لدينا 95 مليون مواطن يحملون الموبايل..
رغم نسبة الأمية الكبيرة.. و50 مليون مواطن يستخدمون الإنترنت.. 49 مليونا يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة.. وعلى مستوى العالم أشار مارك زوكربرج- بفخر لا يخلو من الاستعلاء- أنه: "يوجد لديه جمهورية يسكنها أكثر من 2 مليار مستخدم على مستوى العالم، وهذا هو العالم الجديد الذي نريد بناءه، ويوجد لديه كم هائل من المعلومات التي ستمكنه من خلق ميزة تنافسية، ومن خلالها يمكن تغير نمط السلوك لدى أعداد هائلة من البشر، وإعادة توجيه الناس وتعديل سلوكهم، والتأثير بالسلب أو الإيجاب في الانتماءات والولاءات والعبث بالهوية، وإعادة توجيه الرأي العام".. إنها أسئلة ومخاطر وجودية: (الميتا فيروس) قادمة.. فهل نحن مستعدون؟