![البنك الاهلي البنك الاهلي](/UserFiles/Ads/8372.jpg)
![تجديد الخطاب الثقافى ( 5 )](/Userfiles/Writers/160.jpg)
د. عزة بدر
تجديد الخطاب الثقافى ( 5 )
بقلم : د. عزة بدر
كيف ننظر إلى التعليم العالى ؟ , وإلى الجامعة ؟
ربما نراهما وسيلة للحصول على وظيفة مناسبة , أو ننظر إليهما نظرة مثالية فالتعليم العالى شىء مقدس فهو رحلة بحث عن العلم للعلم , وفى كل الأحوال عندما تظهر نتيجة الثانوية العامة , ويبدأ الطلاب رحلتهم بأوراقهم ودرجاتهم إلى مكتب التنسيق , وتبدأ مراحل القبول الأولى والثانية والثالثة , ويبدأ العام الدراسى وقد اشتد الضغط على الجامعة , واضطرت إلى أن تقبل من الطلاب فوق ماتطيق , وفى غمرة ازدحام الكليات , وضيق الأمكنة ننسى
أهم الأشياء , ولانجيب على أهم سؤال وهو كيف تكون الحياة الجامعية ؟
بيئات للثقافة والحضارة :
فى كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " يجيب طه حسين عن أهم الأسئلة التى نطرحها على أنفسنا بخصوص التعليم العالى والجامعة فلقد نظر إلى معاهد العلم قبل كل شىء على أنها بيئات للثقافة والحضارة بأوسع معانيهما فيقول : " تعودنا أن ننظر إلى الجامعة وإلى معاهد التعليم عامة على أنها مدارس يدرس فيها العلم , ويعنى فيها بالعقل وملكاته قبل كل شىء أما الأشياء الأخرى التى تمس الخلق والجسم والسيرة الشخصية الوطنية والإنسانية فأمور لاتعنى بها المعاهد إلا عناية عارضة , ومع ذلك فقد فرغ الناس من إثبات أن المعرفة وحدها ليست كل شىء , وأن الذكاء الممتاز خطر إذا لم يقومه خلق كريم , وسيرة فردية واجتماعية صالحة , وجسم سليم مبرأ من العلل والأدواء , وقد آن لنا أن نعتقد بل أن نستيقن أن معاهد العلم ليست مدارس فحسب , ولكنها قبل كل شىء وبعد كل شىء بيئات للثقافة وللحضارة بأوسع معانيهما " .
ورأى أن الطالب الذى يتصل بالجامعة لاينبغى أن يكتفى بأنه حصل على مقدار من العلم , وبلغ عقله مقدارا من الرقى ثم ينصرف عنها ليستغل ماحصل من العلم ومابلغ من الرقى فيما يعرض له من شئون الحياة وإنما ينبغى أن يشعر أنه يتصل بأسرة جديدة هى البيئة الجامعية التى تقوم على الحب والمودة والتعاون بل والتضامن بين أعضائها جميعا سواء منهم الطلاب والأساتذة , أسرة يجب أن تكون صورة مصغرة محققة للمثل الأعلى الذى ينبغى أن يطمح إليه الأفراد فى الجماعة الواحدة , وأن تسمو إليه الجماعات فى الوطن الواحد , وأن تتعاون على بلوغه الأوطان المختلفة فى أقطار الأرض كلها " .
مستقر الثقافة العميقة :
الجامعة كما يراها طه حسين هى بيئة يتكون فيها المرء المثقف المتحضر الذى لايكفيه أن يكون مثقفا بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة , ولايكفيه أن يكون متحضرا بل يعنيه أن يكون منميا للحضارة فإذا قصرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فهى ليست خليقة أن تكون جامعة , وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها , وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه , والإنسانية التى تعمل لها وإنما هى مصنع من المصانع يعد طائفة من العلماء , ومن رجال العمل , محدودة آمالهم محدودة قدراتهم على الخير والإصلاح .
الحياة الجامعية :
الجامعة يجب أن تكون مستقر الثقافة العميقة لا بالقياس إلى نفسها فحسب بل بالقياس إلى غيرها من البيئات أيضا , ويعترف طه حسين فى صراحة وألم بأن جامعتنا بعيدة كل البعد عن بلوغ هذه المنزلة , ودليل ذلك الثقافة السطحية لكثير من الجامعيين , وما ينبغى أن تكون هذه حال الجامعى الذى ينبغى أن يمتاز بسعة العقل والتفنن فى ألوان المعرفة , ويرجع أمر الثقافة السطحية إلى عاملين : " الأول فساد التعليم الثانوى , والثانى أن الحياة الجامعية نفسها ضيقة محدودة مقسمة أقساما متمايزة فكل فرع من فروع الدراسة بالجامعة منحاز إلى نفسه منقطع عن غيره , متوفر على جهوده الخاصة , ولو نظمت الحياة الاجتماعية للشباب الجامعيين تنظيما حسنا لأمكن أن يعايش بعضهم بعضا , وأن تتصل بينهم المودة فيتحدث بعضهم إلى بعض , ويتثقف بعضهم على بعض , ويعرف أولئك أطرافا مما عند هؤلاء , و تتحقق هذه الثقافة الواسعة المنوعة فى غير جهد ولامشقة ولاعناء , الأمر الثانى : أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الحضارة الراقية الممتازة التى لاتظهر آثارها فى الإنتاج العلمى , والعملى وحدهما وإنما تظهر قبل كل شىء فى هذه السيرة النقية الصافية التى تقوم فيها الصلات بين الناس على المودة , والاحترام المشترك والإيمان بالواجب , وتقدير ما لغيرك عليك قبل أن تقدر مالك على غيرك ثم إكبار النفس والارتفاع بها عن الصغائر , ثم فى هذا الذوق المهذب المصفى الذى يحس الجمال ويسمو إليه , ويحس القبح فينأى عنه " .
وكل هذا يتحقق من خلال حياة جامعية يشترك فيها الجميع , ويستمتعون معا بلذات العلم والفن , مرة بالاستماع إلى المحاضرات , وأخرى بالاستماع إلى الموسيقى , ومرة بشهود التمثيل ثم بالاشتراك فى الألعاب الرياضية .
اتحاد طلاب الجامعة :
فإذا كان البعض يرى أن هذا الاتصال الاجتماعى يمكن أن يتحقق من خلال بعض الكيانات الجامعية التى يقوم على انتخابها الطلاب أنفسهم فإن طه حسين يرى أن ذلك لايكفى ويقول : " ليس يكفى أن ينشأ للجامعة اتحاد , وأن توكل إليه هذه الشئون فاتحاد الجامعة مؤلف من طلابها أو هم كثرته , وعلم الطلاب بهذا كله محدود أو قل إنه لاوجود له , والطاقة المالية لهذا الاتحاد لاتكاد تذكر فلابد من أن تقوم الجامعة نفسها على هذا كله قياما حسنا , وأن تعنى به عنايتها بالتعليم نفسه " .
إستقلال الجامعة :
ويؤكد طه حسين فى كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " على استقلال الجامعة وهو قوام الحياة الجامعية , وهو الذى يضمن للجامعة حياة خالصة للعلم , وخالصة من شوائب السياسة أيضا " . كما يرى أنه لايجب توجيه اللوم إلى الجامعة أو اتهامها بأنها لاتنهض بأمور التعليم كما ينبغى , وإلا فماذا يكون الرأى لو رفضت الجامعة قبول المئات والألوف من الطلاب محاولة تحسين مستوى التحصيل العلمى , وتقليل حدة التكدس والازدحام التى تؤثر فى تحصيل العلوم ؟ , ويرى أن الجامعة ليست مسئولة عن هذه المشكلات وإنما على الدولة أن توفر المال الذى يستتبعه قبول هؤلاء الطلاب , وتوفير الأماكن لهم أيضا فكل مايعترض التعليم العالى فى مصر من المصاعب سواء كثر أم قل , هين جدا إذا ظفرت الجامعة بالاستقلال والمال .
سياسة تعيين الخريجين :
ويرى طه حسين أن من أشد الأشياء تأثيرا فى تحقيق استقلال الجامعة أن تقوم الدولة فى حزم وعزم , وفى غير تثاقل ولا إبطاء على تحقيق أمر كثر التفكير فيه , وأخذت به البلاد الراقية منذ زمن طويل جدا حتى أصبح أساسا من أسس الحياة فيها , وهو أن تكون درجات الجامعة , وإجازات المدارس العليا شرطا أساسيا للتقدم لشغل مناصب الدولة لا الظفر بها , ومعنى ذلك ألا تكون هذه الدرجات الجامعية , والإجازات العلمية كافية ليتولى أصحابها المناصب على اختلافها , وإنما تنال المناصب بالمسابقات الخاصة التى تعقد لها فى كل عام , أو كلما احتاجت الدولة إلى الموظفين فى فرع من فروعها , ويرى أن ذلك أنفع للدولة نفسها , لأنه يمكنها من اختيار الموظفين , ومن التشدد فى هذا الاختيار , وأنفع للشباب أنفسهم , لأنه يدفعهم إلى النشاط والجد , ويشعرهم بأن الحياة ليست من السهولة واليسر كما يظنون , وإنما هى جهاد متصل , ثم هو بعد هذا كله مصلح للأخلاق , مقوم للنفوس لأنه يمحو المحاباة محوا فيعصم الوزارات والمصالح من التورط فيها , ويعصمها من أن تتهم بها , ويعصم الشباب أنفسهم من أن يعتمدوا على غيرهم , ويتخذوا جاه السادة والقادة والأغنياء وسيلة إلى المناصب , ثم هو يعصم الشباب مما يستتبعه هذا من ضعف الخلق والتورط فى الإلحاح , وبذل ماء الوجه لهذا الغنى أو ذاك القوى , وهو آخر الأمر يحقق فى نفوس الناس جميعا صورة كريمة نقية للدولة ومناصبها والوسائل التى ُتتخذ لشغلها والحصول عليها .
ويختتم طه حسين هذا المبحث المهم حول مشكلات التعليم العالى فى كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " بقوله : " العلة الصحيحة لكل مشكلة من مشكلات التعليم العالى راجعة دائما إلى الحكومة , والحل الصحيح لكل هذه المشكلات يكون دائما مع ظفر الجامعة بما تحتاج إليه من الاستقلال والمال حتى تظفر بما تستمتع به الجامعات الأخرى من هذه الحياة الكريمة المستقلة .
الحرية والعناية بالثقافة العميقة ومنابرها من أهم أسس الحياة العقلية والفكرية , ومن أهم علامات الطريق نحو خطاب ثقافى جديد وكذلك إعادة قراءة موروثنا الفكرى والحضارى , وقد أفرد طه حسين فى كتابه الشهير المؤثر فصولا كاملة لحرية الأدب والصحافة والسينما ووسائل الإعلام بصفة عامة , ولهذا حديث آخر .