عاجل
الإثنين 10 فبراير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تجديد الخطاب الثقافى ( 4 )

تجديد الخطاب الثقافى ( 4 )

بقلم : د. عزة بدر

تاريخنا الذى لا نعرفه إلا عن طريق الأجانب !



كيف ننهض بالتعليم ؟ , وكم لغة أجنبية يجب أن يتعلمها الطالب منذ مراحل التعليم الأولى ؟ , وماذا عن تعليم اللغة العربية ؟ , تلك التى كان يقول عنها طه حسين مقولته المشهورة " لغتنا العربية يُسر لا عُسر , ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها  " .

وهى المقولة التى غيرت التفكير اللغوى لدى الكثيرين , وإن ضغطة واحدة على أزرار الإنترنت كفيلة بأن تستدعى ميراثا من الإيمان بالحرية اللغوية التى أرساها طه حسين فى نفوس الناس فقد أكملها البعض كالتالى : " ولنا أن نضيف إليها ألفاظا لم تكن تستخدم فى العصر القديم " , أو " ولنا أن نضيف إليها مانحتاجه فى العصر الحديث " , أو " لا أحد يمنعك من أن تضيف إليها لفظا جديدا أو أسلوبا جديدا مادام هذا اللفظ , وهذا الأسلوب ليس من شأنهما أن يفسدا أصلا من أصول اللغة أو يخرجاها عن طريقها المألوف " , وكلها مقولات تنتسب إلى ثمار كلمة طه حسين التى حررت التفكير اللغوى عند الكثيرين  .

الثقافة الوطنية واللغة العربية :

ولكى تتضح رؤية طه حسين كاملة فى تنمية الفكر اللغوى , وتحريره ماذكره فى كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " حول برامج تعليم اللغة العربية , وكيفية النهوض بها  فيقول : " إذا كنا نشكو من أن الطلاب لايحسنون لغتهم العربية , ونحمل ذلك على اللغة نفسها أحيانا , وعلى مناهجها وكتبها أحيانا , وعلى معلميها ومذاهبهم فى التعليم أحيانا , لكننا لانحمل ذلك على مصدر لعله يكون من أهم مصادره , وهو أن التلميذ لايكاد يدخل المدرسة حتى تتلقفه اللغة الأجنبية فتستغرق من وقته ونشاطه ماهو خليق أن ينفق فى تعلم اللغة الوطنية , وإتقان غيرها من المواد التى تتصل بالثقافة الوطنية فعلينا أن نعنى باللغة العربية , وأن نضمن فراغ التلميذ لها , وانصرافه إليها , وألا نشغله عنها بلغة أجنبية يستطيع أن يتعلمها ويتعمقها حين ينمو عقله وجسمه وملكاته , وحتى لاتفنى شخصيته اللغوية والأدبية الناشئة فى هذه اللغة الأجنبية , وحتى لايضطرب عليه الأمر فى حياته الثقافية حين تتقدم به السن , وحين يحتاج إلى أن يعبر عما فى نفسه , ويفهم ما يعبر به غيره , وحين يدعو إليه لغته العربية فلا تواتيه , ولاتستجيب له لأن الألفة لم تتحقق بينه وبينها أثناء الصبا , ولأنه شُغل عنها , وأكره على ألا يمنحها من نفسه إلا جزءا يسيرا  " .

ومن اللافت أن طه حسين لم يكن يتعجل مثلنا تعليم التلاميذ اللغات الأجنبية بل كان رأيه قاطعا وصريحا فى هذا الشأن إذ رأى أن اللغة الأجنبية لاينبغى أن تدرس فى المدارس الابتدائية التى هى أول التعليم العام لا فى السنة الأولى , ولا فى السنة الثانية , ولا فى السنة الثالثة , ولا فى الرابعة , وإنما يجب أن يخلص هذا القسم من أقسام التعليم كما لابد أن يخلص التعليم الأولى للثقافة الوطنية الخاصة إذا أردنا أن تخلص نفس الصبى لوطنه , وأن تشتد الصلة بينها وبين الوطن لأن هذا الصبى سيتجاوز الوطن فى الثقافة إلى أوطان أخرى مختلفة بعد زمن قصير , وسيشتد اتصاله بهذه الثقافات فلابد أن يكون متمكنا من لغته محبا لها .

تصرف المالك فى اللغة :

ومن أبدع ماقاله طه حسين عن اللغة العربية " أنها ملك للذين يتكلمونها جميعا من الأمم والأجيال , وكل فرد من هؤلاء الناس حر فى أن يتصرف فى هذه اللغة تصرف المالك متى استوفى الشروط التى تبيح له هذا التصرف " .

لقد أكد طه حسين على تحرير اللغة , وحق ناطقيها , والذين استوفوا حقها فى تعلمها وتعليمها فى التصرف فيها فيقول : " إن اللغة العربية ليست ملكا لرجال الدين يؤمنون وحدهم عليها , ويتصرفون وحدهم فيها , ولكنها ملك الذين يتكلمونها جميعا من الأمم والأجيال , وإذا فما دامت اللغة العربية لغة الحياة كلها بالقياس لأصحابها لا لغة الدين وحده فيجب أن يكون شأنها شأن مرافق الحياة جميعا , ويجب أن ترد إلى الدولة والأفراد الحرية التامة فى أن يمنحوها من العناية مايجب أن يمنحوه للمرافق العامة والتى تمس منها حياتنا العقلية بوجه خاص , وعلى الدولة أن تجدد هذا التعليم , وتجعله ملائما لحاجات الحياة العقلية والعملية فى العصر الحديث , وهذا يقتضى أن نبدأ العناية باللغة العربية لمن يريد التخصص فيها منذ أول التعليم الثانوى فيكون التعمق فيها , وفيما يتصل بها من الثقافات ثم يكون إعداد التلاميذ لنوعين من هذا التخصص : أحدهما التخصص فى فقه اللغة ويريد به العلوم اللغوية على اختلافها , ويكون الاستعداد له بالبدء فى درس بعض اللغات السامية منذ التعليم الثانوى ليمكن التوسع والتعمق فيه أثناء التعليم العالى , والآخر التخصص فى آداب اللغة , ويكون الاستعداد له بالبدء فى درس اللغة الفارسية منذ التعليم الثانوى

ليكون التوسع فى ذلك الدرس والإضافة إليه أثناء التعليم العالى

لنقدم إلى الناشئين والشباب من اللغة وعلومها وآدابها مايفهمون ويسيغون ويتذوقون , ورأى طه حسين أن إصلاح علوم اللغة العربية شرط أساسى لإصلاح التعليم كله , كما دعا إلى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة , كما دعا إلى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة .

من مصادر الثقافة العامة :

ويؤثر طه حسين أن يبدأ درس الأدب من آخره أى من هذا العصر الحديث كما يقول : " لنزيل الجهد العنيف الذى كانوا يضطر إليه الطلاب حين يتحدث إليهم معلمهم عن النابغة , وزهير , والأعشى , وامرؤ القيس , وأن تؤلف للتلاميذ كتبا تلائم هذا العصر الحديث

لأن درس اللغة وآدابها من أهم مصادر الثقافة العامة , ولعله أن يكون أهمها وأعظمها خطرا فهم بحكم مادته ومعانيه يتصل بالعقول والقلوب والأذواق جميعا , وهو من أجل هذا مثقف للعقول وُيذكى القلوب , ويهذب الأذواق فلابد من أن نطلب إلى درس اللغة وآدابها تثقيف العقل بما يقدم من علم , وتقويم الطبع , وتصفية الذوق بما يقدم من صور رائعة البيان , وتذكية القلب بما يقدم من تصوير رائع للمُثل العليا , ويضيف طه حسين موضحا : " من المحقق أن فى الأدب العربى مايعين على تحقيق هذه الأغراض

ولكن من المحقق أيضا أنه وحده على جماله وروعته , وعلى عمقه وتنوعه لايكفى لتحقيق هذه الأغراض ففى حياة الإنسان أشياء كثيرة متنوعة لم يعرفها الأدب العربى , ولم يتصل بها , وفى الحياة الحديثة نفسها أشياء كثيرة لم يبلغها الأدب القديم بالطبع ولم يبلغها الأدب الحديث بعد , ولابد أن يتصل بها التلاميذ ولابد أن يكون ذلك من عن طريق اللغة العربية نفسها لا عن طريق لغة أجنبية لأن اللغة العربية ينبغى أن تكون الأقرب إلى نفوس التلاميذ ولأنها أبلغ أثرا بل يجب أن تكون كذلك , وعلينا أن نجتهد مااستطعنا فى حمل التلميذ على أن يحب لغته ويقدرها ويكبرها فى نفسه , ولايراها أقل خطرا أو أضيق أفقا من اللغات الأخرى  " .

حاجتنا إلى اللغات الأجنبية :

ويقول طه حسين فى كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " : إن حاجتنا إلى اللغات الأجنبية شديدة جدا , لكن اللغات الأجنبية ليست مقصورة على الانجليزية والفرنسية بل هناك لغات أوربية حية ليست أقل رقيا وامتيازا من هاتين اللغتين , ولكن مدارسنا لاتزال محتكرة لهاتين اللغتين , ورأى أن تضاف الألمانية والإيطالية فى مدارسنا الثانوية إلى الانجليزية والفرنسية , وأن تُخير الطلاب بين هذه اللغات الأربع يختارون منها لغة أو لغتين على أن تكون إحداهما أصلية والأخرى إضافية  .

 ولو كان بيننا طه حسين الآن لدعا لتعليم الصينية , واليابانية  , والأسبانية أيضا فقد كان يستهدف إتاحة الثقافات الكبرى التى تتقسم العالم وتتنازعه وتتعاون على تحضيره ليحل شىء من التوازن فى حياتنا العقلية , وهذا التوازن نفسه يكون سبيلا إلى إبراز شخصية قوية ممتازة لاتستطيع أن تفنى فى هذه الأمة ولا فى تلك , ورأى أن  هذا يلائم مانطمح إليه من تحقيق الشخصية المصرية وتقويتها فإننا إذا  فرضنا على أجيالنا الناشئة ثقافة بعينها صغناهم على مثال  أصحاب هذه الثقافة فجعلناهم معرضين للفناء فيهم , والانقياد لهم .

مشكلات خطيرة فى التعليم العالى :

ويطرح طه حسين رؤى جديرة بالاعتبار فى وضع مناهج التعليم العام لما لها من تأثير على التعليم العالى فيقول : " إذا كان التعليم العام يهيىء التلاميذ للجامعة , وللتعليم العالى على اختلاف ألوانه فإن التعليم العالى لايكتفى ولايستطيع أن يكتفى بلغة أجنبية واحدة أو بلغتين أجنبيتين , وإنما هو فى حاجة إلى أعظم حظ من اللغات الأجنبية , والتعليم العام لايهيىء الشباب للتعليم الجامعى إذا فرض عليهم لغتين اثنتين , وقد نشأت عن ذلك مشكلات خطيرة أحستها الجامعة , وأحستها كلية الآداب خاصة , ومن هذه المشكلات أن الطلاب إذا دخلوا كلية الآداب  ,  وبدأوا التخصص فى أقسامها شعروا هم وأساتذتهم لا بأنهم ضعاف فى اللغة الإنجليزية والفرنسية فحسب بل بأن هاتين اللغتين قد لاتكفيان لما يحتاج إليه الطالب حين يريد أن يتخصص فى فرع من فروع العلم فمن أراد التخصص فى اللغات السامية , وفى الدراسات القديمة لايستطيع أن يستغنى عن اللغة الألمانية , وكذلك من أراد أن يتخصص فى الآثار المصرية أو الإسلامية  . , ويرى أنه يمكن توجيه الطلاب إلى التخصص الدراسى من خلال مادرسوا فى المدارس العامة من لغات .

اليونانية واللاتينية :

ويؤكد طه حسين أننا لن نظفر بالتعليم الجامعى الصحيح , ولن نستطيع تدبير بعض مرافقنا العامة إلا إذا اعتنينا بهاتين اللغتين لا فى الجامعة وحدها بل فى التعليم العام قبل كل شىء , وهو يطرح هذه الإشكالية على الوجه التالى : " أيجب أن يهيأ الناس جميعا للعلم والتخصص ليصبحوا جميعا قادة الرأى , ومديرين للأمور العامة , أم يجب أن يتهيأ بعضهم للحياة العاملة التى تيسر لهم طلب الرزق وكسب القوت ؟ فإن كانت الأولى فلابد من اللاتينية واليونانية لأنهما أساس العلم والتخصص , وإن تكن الثانية فكثرة الناس محتاجة إلى التعليم الفنى من جهة , وإلى التعليم العام الحديث الذى يعرض عن اللاتينية واليونانية إلى اللغات الحية والعلوم التجريبية بشرط أن تظل هاتين اللغتين مفروضتين على كل من يريد العلم الخالص , والتخصص فيه .

وظل طه حسين يدافع عن هذه الفكرة رغم ماتعرضت له دعوته تلك من مقاومة فيقول : " فى وقت من الأوقات قد مضى على كلية الآداب كان الأساتذة الإنجليز يؤيدون مقاومة تدريس هاتين اللغتين تأييدا عنيفا , وكان أشدهم غلوا فى ذلك أستاذ من أساتذة ليفربول هو الأستاذ كوبلند الذى تخصص فى تاريخ القرون الوسطى , والذى تقوم حياته العلمية كلها على اللاتينية , فسألته أثناء جلسة من جلسات مجلس الكلية : أتعرف جامعة انجليزية تُهمل فيها اللغة اللاتينية ؟ , قال : لا , قلت : فما بالك تريد أن تكون الجامعة المصرية بدعا من جامعاتكم ؟ , قال : لأن مصر لم تبلغ بعد أن تكون كانجلترا , وكان جوابه كافيا لتحول الكثرة عنه , وانضمامها إلي " . , ولذا يؤكد طه حسين على أننا إذا كنا نريد أن ننشىء فى مصر بيئة للعلم الخالص تشبه أمثالها من البيئات العلمية فى أى بلد من البلاد الأوروبية الراقية أو المتوسطة فعلينا الاهتمام بتدريس هاتين اللغتين فهما من الوسائل التى لايمكن إهمالها , ولا الاستغناء عنها , وقد يقول البعض أنهما تدرسان فى كلية الآداب , ولكن طه حسين يؤكد أن هذا لايكفى بل هو بعيد كل البعد عن الكفاية فاللغات الحية الأوربية تدرس فى كلية الآداب , واللغة العربية أيضا تدرس فيها , ولم يقل أحد أن هذا يعفى التعليم العام من درس هذه اللغات , وإعداد الطلاب لدرسها فى التعليم العام لأن التخصص فى أى فرع من فروع الدراسات الأدبية التخصص الصحيح لاسبيل إليه إلا بمعرفة اللاتينية دائما , واليونانية أحيانا .

عشرة قرون  :

ومن هنا يدعو طه حسين المهتمين بالتاريخ المصرى , والقومية المصرية على العناية بهاتين اللغتين وإتقانهما على أساس  أن العلاقة بين مصر واليونان قديمة جدا , واليونان قد صوروا

هذه العلاقة فيما كتبوا , وما أنشأوا , وقد نشأت عن الحكم اليونانى والرومانى لمصر نظم استمرت عشرة قرون , ومصادر تاريخها يونانية ولاتينية كذلك اتصال مصر فى عصورها الإسلامية بالبيزنطيين من جهة , وبأوروبة الغربية  من جهة أخرى , ومصادر التاريخ لهذا الاتصال مكتوبة باللغتين اليونانية واللاتينية وإن لم نتقنهما لن نعرف تاريخنا إلا عن طريق الأجانب .

لقد اهتم طه حسين بالتعليم ومشاكله وأزماته ولغاته , وهو يستهدف خطابا ثقافيا شاملا يهتم بمنتج هذا الخطاب ومتلقيه والتأسيس له , وكان يرى أن الجامعة مستقر الثقافة العميقة , وهو ما سنعرض له فى حديث آخر .

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز