قد يكون ذلك هو لسان حال معظم المصريين في الأيام القليلة الماضية، خاصةً بعد تداول معظم وكالات الأنباء لأخبار امتداد المعارك الشرسة بين الفصائل الليبية المتناحرة إلى قلب العاصمة طرابلس و تدمير المطار، و ما تردد من تدخل بعض دول الجوار، و من بينها مصر، عسكرياً في ليبيا لمساندة أطراف بعينها، و هو ما نفته مصر و بشدة و على لسان أكبر سلطة فيها متمثة في شخص رئيس الجمهورية.
و أستطيع هنا تفهم مواجهة الكثيرين لصعوبات بالغة في قراءة المشهد الليبي منذ اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير 2011 ضد القذافي، و حتى يومنا هذا، فاختلاط الأوراق، و تداخل المصالح، و تعدد السلطات، و تبدل المواقف، و كثرة المعسكرات جعلت الموقف يبدو للكثيرين مبهماً و عصياً على الفهم.
هل نؤيد "المؤتمر الوطني العام"، أم نساند "مجلس النواب"؟ .. ما الفارق بين قوات "درع ليبيا"، و قوات "عملية الكرامة"؟ .. و من هو رئيس الحكومة، و من منهم الذي ينفذ أجندات خاصة، و من منهم يسعى ليرى ليبيا قوية موحدة تحت راية واحدة؟ .. و لكي تستطيع الإجابة على كل ذلك ببساطة و دون تعقيد فدعني أطلب منك أن تمنحني تركيزك الكامل في السطور القادمة، و لن أمانع إذا تطلب منك الأمر أن تحذو حذو سمير غانم في مسرحية المتزوجون حين "ربط دماغه عشان ما تضربش" !
أصل الحكاية يرجع للأيام الأولى للثورة، حين قرر الثوار الإعلان عن تشكيل "المجلس الوطني الانتقالي" في فبراير 2011 و قبل سقوط القذافي ليكون ذلك المجلس بمثابة الممثل الشرعي للثورة و المتحدث باسمها داخلياً و خارجياً، كما أنه سيكون بمثاية الحكومة المؤقتة التي ستتولى إدراة الأمور في حال سقوط القذافي. و تولى رئاسة "المجلس الوطني الانتقالي" حينها "مصطفى عبد الجليل" و هو وزير العدل الذي انشق عن نظام القذافي، و هو منصب يعادل منصب رئيس الجمهورية، و كان هناك منصب آخر على درجة كبيرة من الأهمية تحت مسمى رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي و هو يعادل منصب رئيس الوزراء، و تولاه حينها "محمود جبريل" و هو أحد أعلام إصلاح الاقتصاد الليبي و من أسس المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي في ليبيا على خلفية عمله كأستاذ للإقتصاد بجامعات الولايات المتحدة، و كان قد انشق أيضاً عن القذافي في 2009 و هو متزوج من ابنة وزير الداخلية المصري الأسبق "شعراوي جمعة" و حصل على درجته الجامعية في الاقتصاد و العلوم السياسية من جامعة القاهرة.
المنصب الثالث، و الأكثر أهمية في نظري، هو منصب ممثل المجلس الوطني الانتقالي في فرنسا و أوروبا، و الذي نجح في انتزاع اعتراف الدول الأوروبية و حلفائها بالمجلس كممثل للشعب الليبي في أحلك لحظات الصراع مع القذافي، و تولى هذا المنصب "علي زيدان" و هو احد المعارضين الراديكاليين للقذافي منذ 1980 و أحد المنضمين و المؤسسين للجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا حينها.
تولى المجلس الوطني الانتقالي السلطة بعد سقوط القذافي، و سلم السلطة في أكتوبر 2011 إلى حكومة انتقالية برئاسة "عبد الحكيم الكيب" و هو ليبي حاصل على الجنسية الأمريكية، و أستاذ في الهندسة في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، و قامت هذه الحكومة بإعداد كل ما يلزم من إجراءات تضمن إعلان قيام الأحزاب و تنظيم كل ما يتعلق بإجراء عملية انتخابية ديمقراطية في جميع أرجاء ليبيا لانتخاب "المؤتمر الوطني العام" أو ما قد نسميه نحن في مصر "البرلمان" أو "مجلس الشعب".
و بالفعل تم انتخاب أعضاء "المؤتمر الوطني العام" في 7 يوليو 2012، و تولى سلطاته التشريعية و الرقابية رسمياُ في اغسطس 2012، و هو تقريباً نفس التوقيت الذي تولى فيه مرسي رئاسة الجمهورية في مصر. و انقسم "المؤتمر الوطني العام" بين معسكرين، الأول معسكر القوى الليبرالية و المدنية بزعامة "تحالف القوى الوطنية" الذي يقوده "محمود جبريل"، و المعسكر الآخر الذي يمثل الإسلاميين و اليمين المتطرف بزعامة " حزب العدالة والبناء" الذراع السياسية لجماعة "الإخوان المسلمين" في ليبيا، و تم انتخاب "محمد المقريف" اميناً عاماً للمؤتمر، و هو أحد المنشقين عن القذافي في 1980 أثناء توليه منصب سفير ليبيا لدى الهند.
و كما تلاحظون، فإن المشهد حتى الآن تقوده التيارات الوطنية و الليبرالية، و لذلك بدأ سعى الإسلاميين الحثيث منذ اللحظة الأولى بقيادة " حزب العدالة والبناء" إلى السيطرة على الأمور داخل "المؤتمر الوطني العام"، و بدأ ذلك بتفصيل نص لمشروع العزل السياسي مكنهم من ضم "المقريف" لقائمة من يجب عزلهم بحجة توليه منصب سفير في نظام القذافي قبل انشقاقه، و تمكنوا في 24 يونيو 2013 من تنصيب "نوري أبو سهمين" اميناً عاماً للمؤتمر بدلاً منه، و هو شخص يمكنهم بسهولة السيطرة عليه لضعف خبرته السياسية، و يمكنهم بالتالي التحكم في شكل الدستور الجديد الذي سيشرف "ابو سهمين" على إعداده بصفته أميناً عاماً.
و حيث أن من مهام "المؤتمر الوطني العام" أيضاً تعيين رئيس حكومة جديد للبلاد، فلقد تم التصويت في نوفمبر 2012 على مرشحين اثنين لرئاسة الوزراء، و فاز بالتصويت "علي زيدان" المدعوم من الليبراليين بأغلبية 93 صوتاً ضد "محمد الحراري" المدعوم من الإسلاميين و حصل على 85 صوتاً فقط. و كان ذلك بمثابة إعلان فشل جديد للإسلاميين في مسعاهم للانفراد بالسلطة كما فعلوا في مصر و تونس. و لم يهدأ للإسلاميين بالاً فأخذوا يضعون العراقيل أمام "زيدان" ليزيحوه من السلطة ، و وصل الأمر لدرجة اختطاف "زيدان" نفسه ثم إطلاق سراحه في 10 أكتوبر 2013 على يد ميليشيات "غرفة عمليات ثوار ليبيا" و هي ميليشيا إسلامية مدعومة من الإخوان في ليبيا أيضاً.
و في إطار سعي الإخوان للسيطرة على المشهد بشكل كامل، فقد عملوا جاهدين على إيهام الجميع برغبتهم في ضم الميليشيات المسلحة إلى الجيش الليبي و طلبوا من "زيدان" العمل على ذلك و إعلانه، و بالفعل تم إعلان ضم ما يعرف بميليشيات "درع ليبيا" إلى الجيش ، بالرغم من أن هذه الميليشيات التابعة لهم و لحلفائهم مقسمة فعلياً لثلاث أفرع رئيسية (الشرق و الوسط و الغرب)، و بالرغم كذلك من بقاء ولاء هذه الميلشيات لقادتها و ليس لقادة الجيش او للحكومة المركزية.
و في خطوة غير مسبوقة، قام الإخوان و حلفاؤهم الإسلاميون في "المؤتمر الوطني العام" بعزل "زيدان" و تعيين وزير الدفاع "عبد الله الثني" قائماً بأعماله في 11 مارس 2014، و تلا ذلك إعلان ميلشيات "درع ليبيا" و المتحالفين معها من ميليشيات "أنصار الشريعة" الموالية لتنظيم القاعدة، و التي اغتالت السفير الأمريكي في بنغازي، و "مجلس شورى ثوار بنغازي" تأييدها لقرارات المؤتمر الوطني العام في تحد واضح لسلطة الحكومة المركزية.
و وسط كل هذه الأمواج التي تلاعبت بالسفينة الليبية، خرج اللواء المتقاعد "خليفة حفتر" في مايو 2014 و ليعلن القيام بعملية واسعة عرفت بعملية "الكرامة" للحفاظ على وحدة الأراضي الليبية واستعادة هيبة الحكومة و الجيش الليبيين، من أيدي الميليشيات الإسلامية ، و كان من الطبيعي أن يعلن الوطنيون الليبيونن و القبائل الرئيسيةن و كتائب و وحدات الجيش الليبي و على رأسها كتائب القعقاع و الصواعق، و كذلك الأفرع الرئيسية من القوات الجوية و البحرية بالإضافة لقوات وزارة الداخلية و مديريات الأمن تحالفهم مع "حفتر" في إطار عملية "الكرامة" لينضم إليهم كذلك ثوار الزنتان الأشداء في الجبل الغربي.
و يبدو أن الإسلاميين، وسط انشغالهم بكل هذه المعارك السياسية و المؤامرات الخفية، لم يلحظوا أن الفترة القانونية "للمؤتمر الوطني العام" قد انتهت و أنه قد وجب إجراء انتخابات جديدة لانتخاب "مجلس النواب" الذي سيتولى مقاليد الأمور، و بالفعل تم إعلان نتيجة الانتخابات التشريعية، في يوليو 2014 بصدمة مدوية للإخوان و حلفائهم بسقوط مدوي منحهم 23 مقعداً فقط من أصل 200 مقعد ذهبت غالبيتها للليبراليين و الفيدراليين و ممثلو القبائل و المستقلون، و وجب حينها تسليم السلطة للمجلس المنتخب الجديد، و هو ما رفضه "المؤتمر الوطني العام"، و ميليشيات "درع ليبيا" و حلفائها في انقلاب تام على الشرعية، بل و أعلنوا رفضهم لعملية "الكرامة"، و رفضهم كذلك الاعتراف بمجلس النواب المنتخب، بل و بسلطة الحكومة المركزية في طرابلس برئاسة "الثني"! ، و هو ما دعا "مجلس النواب" المنتخب لإعلانها كجماعات إرهابية، و نقل جلساته إلى طبرق تحت حماية وحدات الجيش الليبي.
و على إثر ذلك، قامت هذه الميليشيات منذ أيام بعملية موسعة للهجوم على الجيش و القوات المتحالفة مع "حفتر" في طرابلس ، و هو ما دعا "مجلس النواب" أيضاً للإعلان عن تنصيب رئيس جديد للأركان يمكنه توحيد كتائب الجيش و الأفرع الرئيسية لاستكمال عملية "الكرامة" و دحر الميليشيات الإسلامية الموالية للإخوان و القاعدة، و القضاء على تمرد أعضاء "المؤتمر الوطني العام" المنتهية ولايته، و التأكيد على شرعية "مجلس النواب" المنتخب.
و هكذا عزيزي القارئ يمكنك الآن أن تعرف أين يجب أن تقف مصر، و من الذي يشكل خطراً على أمنها القومي، و لماذا وقف وزير خارجيتنا اليوم مع وزير الخارجية الليبي، ورئيسة مجلس النواب الليبى المنتخب، و رئيس الأركان الليبى الجديد، و لماذا عرض السيسي تدريب الجيش و الشرطة الليبيين ليمكنهما ضمان وحدة الراضي الليبية، فبالرغم من كل الأعباء و التحديات التي نواجهها هنا في الداخل، فلا بد لضمان امننا القومي في الداخل، ألا نغفل مواجهة التحديات الإرهابية فيما وراء الحدود الليبية.