محمد بغدادى
المشروع القومى للثقافة المصرية
بقلم : محمد بغدادى
إن الظروف التاريخية الدقيقة التى تمر بها البلاد تحتم علينا جميعا قيادة وشعبا ثوارا ونخبا.. أن نستنفر جميعا لصياغة مشروع قومى للثقافة المصرية.. التى تحتاج إلى ثورة حقيقية.. لقد استطاعت ثورة 25 يناير أن تسقط نظام مبارك المستبد.. وتلتها ثورة 30 يونيو التى أسقطت حكم جماعة الإخوان الفاشى.. فلابد لنا من ثورة ثقافية قادرة على إسقاط النمط التقليدى للتعامل مع ملف الثقافة المصرية.
ثورة يجب أن يمثل فيها كل جماعة المثقفين المصريين على امتداد أرض مصر.. ويسهم فى وضع رؤاه وصياغته مجموعات متنوعة من جميع المثقفين المتخصصين فى شتى مجالات المعرفة من مختلف الأجيال.
وتتجلى أهمية حاجتنا إلى مشروع قومى للثقافة الآن لتسترد قطاعات كبيرة من شعبنا العظيم استحقاقاتها من المنتج الثقافى.. وحتى نرد لهذا الشعب وعيه الذى غيب على مدى أربعين عاما من التجريف الثقافى.. بعد أن اقتصر تداول السلطة الثقافية على نفر قليل من القيادات الثقافية.. وتم إقصاء عدد كبير من المثقفين المصريين من المشهد الثقافى لسنوات طويلة.. إلا من سمح له بالعمل تحت مظلة الأجهزة الرسمية بشروط النظام ورؤيته.. أربعون عاما غاب فيها التنسيق وتنظيم التعاون بين وزارات الدولة ومؤسساتها المعنية برعاية وصياغة وعى ووجدان هذا الشعب.. ومن هنا تأتى أهمية تتضافر جهود كل الوزارات والهيئات المعنية بصياغة مشروع مصر الثقافى.. وعلى رأسها: وزارة الثقافة .. والإعلام والتربية التعليم والتعليم العالى والشباب والرياضة والأوقاف والأزهر الشريف والكنيسة المصرية والنقابات المهنية والأحزاب السياسية ومنظمات العمل المدنى والهيئات الثقافية المستقلة.
لقد حان الوقت لوضع مشروع ثقافى وطنى للدولة المدنية الحديثة .. مشروع قادر على حماية وعى الأمة المصرية.. وثقافتها السمحة.. وحضارتها العريقة وتراثها الغنى.. مشروع يقود فيه المثقفون معركة المواجهة مع الإرهاب والتطرف وخفافيش الظلام.. بعد أن أسند هذا الملف طوال سنوات إلى أجهزة أمنية.. لم يكن بمقدورها أن تقضى على كهوف الظلام وساكنيها بمفردها.. فخرجوا علينا متعطشين للانتقام والاستبداد والدماء.. لقد تخلت الأنظمة المستبدة عن مسئوليتها تجاه شعبنا العظيم طوال السنوات الماضية فجاء كل من هب ودب ليملأ عقول البسطاء من شعبنا العظيم بما يخدم أغراضه من خزعبلات وثقافات هابطة.. فتراجعت كل القيم وتوارت الثقافة المصرية الأصيلة خلف ظلمات الجهل والتخلف.. فى محاولات منهجية منظمة لطمس الهوية المصرية.
فلم يعد من المقبول أن يكون نصيب المواطن المصرى من الإنفاق الثقافى داخل الموازنة العامة 26 قرشا سنويا، وأن ميزانية الهيئة العامة لقصور الثقافة مازالت 273 مليون جنيه فى السنة، تحصد الأجور والمرتبات الهزيلة 90٪ منها، وما ينفق فعليا على الأنشطة الثقافية 27 مليون جنية فقط! . فإجمالى عدد العاملين فى وزارة الثقافة كلها 34 ألف موظف، منهم فى هيئة قصور الثقافة وحدها فقط 16 ألف موظف .. فهذا العبث لا بد أن ينتهى.. فما تنفقه الدولة من شراء معدات وقنابل مسيلة للدموع وعربات مدرعة ودروع واقية من الرصاص وأسلحة.. و.. إلخ.. يفوق ميزانيات وزارات التربية والتعليم والشباب والرياضة والثقافة والإعلام مجتمعة.. ذلك لأن الحكومات المصرية المتعاقبة مازالت مصرة على إسناد ملف مواجهة الإرهاب والتطرف إلى الأجهزة الأمنية ظنًا منها أن جنودنا البواسل من رجال الجيش والشرطة من المفترض أن يظلوا طوال العمر يرابطون فى الشوارع من أجل حماية الوطن والمواطنين من بطش التنظيمات الإرهابية، وهذا هو الخطأ الأكبر الذى تقع فيه كل حكومات ما قبل 25 يناير التى كانت تعتقد دائما أن المواطن الواعى والمثقف الحر المستنير أكثر خطرا عليها من المواطن (الإرهابى/ الضحية ) الذى يقود سيارة مفخخة ليتحول إلى أشلاء متنائرة فيقتل ويقتل معه ــ باسم الدين ــ عشرات الضحايا من الأبرياء. إلى هذا الحد نحن نعيش الكارثة بكل تفاصيلها المحزنة.. بينما مازلت أكرر من بداية الثمانينيات وحتى الآن ــ عبر عشرات التحقيقات الميدانية المنشورة ــ هذه المقولة : (فرقة مسرحية تغنينا عن كتيبة أمن مركزى).. وللأسف الشديد نحن مازلنا قادرين على إقامة المؤتمرات (فقط!) ولكننا نعجز دائما عن تنفيذ أى توصية تطلقها هذه المؤتمرات.
لقد آن الأوان لأن تضطلع وزارة الثقافة المصرية بهذه المهام الجسام خاصة بعد أن تولى مسئولية وزارة الثقافة مفكر كبير بقامة ووعى وفكر الدكتور جابر عصفور الذى لديه رؤية متكاملة مستنيرة للعمل الثقافى نستبشر من رؤيته العمل الجاد والجهد المخلص من أجل مستقبل الدولة المصرية المدنية الديمقراطية الحديثة.