عاجل
الإثنين 23 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
إطلالة أوروبية لـ "روزاليوسف"

الغربة الثانية 3

إطلالة أوروبية لـ "روزاليوسف"

رَفَعَ عبد الرحمن الشرقاوي نظارته عن وجهه, فَرَكَ عينيه بأصابعه, عاد ووضع النظارة على أرنبة أنفه, فتح ملفاً كنت حملته له, فَرَّ الأوراق المحبوسة بين دفتيه, حرّكَ يده بحركة حائرة, مشى القلم على الأوراق واحدة..واحدة, رسم خطاً تحت كلمات معينة, حوّط بعض المقاطع بدوائر.



جلست أمامه للمرة الثالثة, حاورته محاورة الأكفاء, وللمرة الثالثة حاولت أن أقرأ ملامح وجهه مع كل ورقة يقرأها, يقلبها, يعيدها إلى الملف, مع كلمة يكتبها, وخط يضعه, ودائرة يرسمها.

 

سقطت عيناه في عينيَّ, شعرت وهو يريح القلم من ضغط أصابعه, أن سعادة غامرة دغدغته، فقد استحسن خطة العمل التي وضعتها لمكتب لندن, وأعجبه ما أبديتُ من ملاحظات حول ما كان يصبو إليه, لمّا اختارني ولويس جريس لتحقيق إطلالة جديدة لمجلة "روز اليوسف" في أوروبا.

 

وبعد اجتماعات ثلاثة، طالت وتمددت على عقارب الساعة, أيقن عبد الرحمن الشرقاوي، أن رؤيتي لخطة العمل وللترويج والتسويق إن نُفِذَت، وقُدِّر لها الدعم المالي, فإنها كفيلة بأن تُعيد المصريين المنتشرون في أوروبا إلى "روز اليوسف", وتُعيد إلى شيخة المجلات العربية نقاوتها الصحافية, بعدما لوثتها السعاية والوشايات بأنها يسارية الهوى وميالة إلى الشيوعيين.

 

وفي خطة العمل التي وضعتها, لحظت أن الكتابة الجذابة تؤمن الانتشار, وتخدم عملية الترويج والتسويق, وهذا يؤدي بالحتم اللازم إلى حصد"الإعلان الدولي" الذي حُرمت منه "روز اليوسف" والمجلات المصرية الأخرى في ذياك الزمن, بسبب المناخ السياسي والاقتصادي المُلبد والمتقلب..

 

والحقيقة, أن ما لفت عبدالرحمن الشرقاوي ولويس جريس, ما ذكرته في خطة العمل من أن الصحافة المصرية أهملت الجالية المصرية المشتتة أينما وجدت، في أوروبا أو في الجانب الآخر, في الأمريكتين. فلم تلامس مشاكل المصريين المغتربين, لم تعرضها وتناقشها, وما مرة تواصلت معهم, واكتفت دائماً بنقل ما في "الداخل" المصري فقط..

 

لقد أدركت من تجربتي في غربتي الأولى إلى لبنان, أنه كما أن المصريين في "الخارج" يريدون معرفة حقيقة ما يجري في "الداخل", يرغبون تالياً أن يعرف "الداخل" المصري ما يدور ويحصل وما يعاني منه المصريون في "الخارج".

 

بلغت النشوة مداها, ترقرقت ضحكة على شفتي عبد الرحمن الشرقاوي, قال وهو يسوي من جلسته:

-    "عال.. عال.. الآن أنا مطمئن جداً أننا على السكة الصحيحة".

جذبني من يدي, دارت نظراته على وجهي, شعر بقلقي, حاول تبديده:

-    "أعرف أن المهمة في لندن ليست سهلة, خصوصاً في ظروف عمل مختلفة عما تعرف, ولكن سنكون, لويس وأنا, إلى جانبك".

 

سكت, ثم عاد إلى الكلام:

-    "أطلعنا أول بأول عما يجري معك, وعن أي عقبة تواجهك, وثق أننا هنا سنجد لك الحلول, لأننا نريد أن تنجح في مهمتك, وتحقق لنا ما نصبو إليه ونتمناه".

 

قالها برقة, محاولاً أن يرفَدني بدعم معنوي يبدد قلقي وتخوفي من الآتي.

طوى الملف, وضعه جانباً.

تجسدت لي أعباء ثقته بي, وثقل المسؤولية التي سأتنكبها, وأنا أغلق باب مكتبه خلفي.

 

203  "ريجنت ستريت"

حجارة ذلك المبنى"المصنف" لها أَلْسُن تكاد تنطق بتاريخ وماضي أيامه, وتبوح بأسرار الذين تعاقبوا على العمل في مكاتبه الموزعة على مساحته المترامية الأطراف..              

 

                                            ويتشاوف ذلك المبنى بحاله, ويتفاخر بأنه يقف متحدياً السنوات بهندسته البديعة والمتميزة, قبالة محلات آرثر لاسنبي ليبرتي Arthur Lasenby Liberty العريقة التي أسسها Liberty Department Store  سنة 1875، والمبنى يقدم مساحات إدارية للشركات الصغيرة, ويشتمل على الخدمات كافة, من ردهة استقبال للزوار وقاعات للاجتماعات يستعملها مستأجرو المكاتب, و"سكرتاريا" مشتركة تلبي فيها الموظفات متطلبات المكاتب.. كل ذلك في بيئة مهنية, وجو احترافي، فأنت ترمي الإبرة فتسمع رنّتها على الأرض, الصمت في ذلك المبنى له جلاله, وهو من سلوك العمل عند الإنجليز خصوصاً, والأوروبيين عموماً, فلا تسمع حركة الموظفين, كلٌّ ينكب على أداء ما يوكل إليه من دون ثرثرة وجعجعة, ونقاش عالي النبرات, وإن استخدموا الهاتف لتصريف الأعمال, همسوا, ولا تُسمع في المكاتب غير همهمات.

 

ولأن "الأخلاق الحسنة لا تكلف شيئاً" على قولة المثل البريطاني العتيق, فإن استخدام تعبيرات مثل: من فضلك" If you please أو "شكرا لك" Thank you أو "شكراً جزيلا"Thank you very much  في الحوارات اليومية، يمكن أن يجعل الأمور تسير بشكل أكثر سهولة, وقد لمست ذلك مراراً.

 

وكثيرًا ما تسمع كلمة "آسف"Sorry   أو I Am so sorry  في الشارع  إن قام واحد, عن غير قصد منه, بمنع آخر من المرور فى الطريق, أو اعترضه في صعود الحافلة أو على دَرَج  المبنى, أو أي مواقع أخرى…

 

لكن الأدب في سلوك وطقوس العمل لا يقتصر فقط على  تلك التعبيرات, فهناك العديد من الجوانب الأخرى الأكثر تعقيداً والمتعلقة بلغة الحوار وحل المشكلات في بيئة العمل, أخذت تدريجياً أفهمها وأتأقلم معها، وأهمها "احترام الوقت" والمحافظة على المواعيد".. وأوافق "إيرين ماير" الاستاذة المُحاضِرة في "المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال", عندما كتبت في كتابها القيّم "خريطة الثقافة" إن "بريطانيا  تُعد واحدة من أكثر الدول انضباطا في المواعيد في العالم". فقد خبرت ذلك وعايشته, وتعودت على ممارسته وإتباعه، وقد أدركت من التجربة أن التأخر عن  مواعيد الاجتماعات المحددة لا يُنظر إليه بصورة إيجابية على الإطلاق, وقد يعطي انطباعات سلبية, بغض النظر عن النيات الطيبة للمتأخرين. 

 

ومن طقوس العمل "وقت الغداء" Lunch Time فيحق للموظف ساعة غداء, غالباً ما تُقضى في الحانات Pubs , وتناول الطعام مع كأس جِعة, وأحاديث تؤكد على التواصل. وغالباً ما كانت هذه اللقاءات تؤدي إلى تلاقح الأفكار, فينتج عنها ما يثري العمل ويُغنيه.

 

 كان الإسراف في تناول الكحوليات في أواخر السبعينات وعقد الثمانينات يُعَد من ثقافة العمل، وتدريجياً أصبح تناول تلك المشروبات في النهار أقل شيوعاً, و تراجعت معدلات تناول الكحوليات بين الشباب البريطانيين عموماً, مقارنة بما كان عليه الوضع, وصار مقتصراً  على آخر يوم عمل في الأسبوع (يوم الجمعة)، فيلتقي الزملاء والأصدقاء  بعد انتهاء دوام العمل, وهو في الغالب الساعة الخامسة والنصف مساء في الحانات Pubs  أو في Wine Bars   على كأس نبيذ أو "بيرة", قبل  بدء عطلة الأسبوع  Weekend .

 

ومن  أطرف الأمور التي وجب التأقلم معها  فى مقر العمل, الطقوس الخاصة بالشاي والبسكويت, Tea Breaks   فالبريطانيون يهتمون بتناول الشاي اليومي.

 

وقد كشفت دراسة أعدّها مصنع بسكويت "طوماس جي فودجيبز" وشملت 2000 موظف وعامل بريطاني، أن واحداً من بين كل أربعة أشخاص يحرص على إبرام صفقة خلال اجتماع واحد, لأن فناجين الشاي كانت تغمز لصحن "البسكويت" الذي كان حاضراً على طاولة الاجتماعات, يثير اللعاب ويُغريه، ولا يُترك "البسكويت" وحده, فيوضع على الطاولة معه قطع من الخبز والشوكولاتة والكعك.. وهذه مع فناجين الشاي تنعش العقول, ولها رد فعل ايجابي يساعد على إتمام صفقة, أو مناقشة مشروع.

 

ومن طقوس التشريفات خلال العمل أن تعرض على الزائر فنجان شاي أو قهوة, لأن وصول الزبائن إلى مكتبك قد يكون أمراً شاقاً بسبب بُعد المسافات, أو ازدحام السير أو مشاق التنقل بقطار الأنفاق.. فلكي تحصل منهم على مبتغاك أو أقصى فائدة ممكنة, فمن المهم جداً أن تُحسن ضيافتهم.

 

في دردشة على فنجان قهوة ذات مرة مع لويس جريس, وكنت في مصر في إجازة قصيرة, نزلت على الكلام بيننا طقوس مناخ العمل في لندن, واستغربت أمامه متسائلاً, كيف أن المصري في لندن يتبع في حواراته اليومية سلوك الإنجليز وآدابهم, وعندما يعود إلى مصر ينسى ذلك السلوك تماماً.. ضحك لويس جريس وقال:    

                                                                -    "ببساطة.. لأنه لا يجد  في مصر من يبادله ذلك السلوك"!".  

ليس هناك أشد فتكاً من الصراع النفساني الداخلي, المتمثل بالقلق والخوف من الفشل. تسلطت هذه الفكرة على قلبي، قبل عقلي, فالمهمة لم تكن سهلة, والفجوة بدت لي شاسعة بين الواقع والطموح, فإنني أمثل مجلة غير موجودة وغير معروفة في لندن.

 

ففي ذياك الزمن, كانت جريدة "الأهرام" المطبوعة المصرية الوحيدة التي كنت تجدها في أكشاك باعة الصحف, وفي عدد قليل من المكتبات، وكانت تصل إلى العاصمة البريطانية بعد يومين من صدورها, وتوزعها مؤسسة   WHSmith  وهي أعتق سلسلة متاجر تبيع الجرائد والكتب والقرطسية في بريطانيا (أسسها Henry Walton Smith  مع زوجته آنا سنة 1793), فكيف يمكن ترويج وتسويق وحصد إعلانات لمطبوعة غير متوفرة في المكتبات, ولا أحد يعرف ماضيها وحاضرها, وأنها شيخة المجلات المصرية؟!

 

بدأت أفتش عن موزع يعرف السوق, وله مكانته في توزيع المطبوعات العربية, فدلوني على زياد فهيم, وهو عراقي المنبت, عصامي, كدَّ واجتهد وكوّن لنفسه حيثية, وبَرَعَ في مهنة التوزيع التي كان أخذها حرفة عن والده في بغداد, فذهب سمعه بين الناس.

 

وبعدما نلت موافقة عبدالرحمن الشرقاوي, التقيت زياد فهيم فلم يتردد, قَبِلَ, وضع شروطه, حدد نسبة حصته من التوزيع, قبلت, وقّع على عقد ووقعّت معه..  وصارت مجلة "روز اليوسف" يُنادى عليها في العاصمة البريطانية, وتحتل الصدارة في أكشاك باعة الصحف، وفي المكتبات الكبيرة التي تبيع الصحف التي تحكي بكل لغات العالم. 

 

وكما توقعت أقبل المصريون عليها, وأسبوعاً بعد أسبوع أخذ التوزيع يرتفع, وتكوّن عندي تصوّر واضح لمدى انتشارها, وكذلك تشخيص وافِ لشرائح قراء المجلة Readers Profile وهو أول ما تطلبه وكالات الإعلان...  وبدأت "روز اليوسف" في الانتشار.. وبقي لها أكسير الحياة.

 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز