عاجل
الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
استعادة الوطن والهوية "الحلقة الثانية"

استعادة الوطن والهوية "الحلقة الثانية"

بدأت فعليًّا على الأرض شرارة إعادة ترسيم الشرق الأوسط من العراق. 



اعتبر مراقبون أن العراق كانت بروفة، أو تجربة أخيرة لبدء تصدير موجات ما سمي بعدها بثورات الربيع العربى إلى دول المنطقة. فمن تونس في المغرب العربي.. وصولًا إلى مصر. 

شملت بدايات التفاعل في العراق ثلاث ركائز في الطريق إلى الإتيان بالدولة على الأرض.

 

أولًا: إثارة النزعات القبلية والعرقية والمذهبية في الشارع العراقي، وخلق مناخ يبدأ من النزاع، وينتهي بالصراع المسلح. يمتد من النزاع بين الجماعات والجماهير، إلى مواجهة مع الدولة ومؤسساتها.. وصولًا إلى وضع لا يمكن أن تظل فكرة الدولة فيه قائمة بالمعنى ولا حتى بالشكل. 

الذي حدث في العراق، أن سقطت الدولة أسرع مما كان مفترضًا.. فبدأ السرطان يسري في العظم.

ثانيًا: كانت أولى محددات وموجبات نجاح تثوير الشارع العراقى، غير دفع المواطن العراقى نفسه إلى إسقاط دولته، هو النجاح ابتداء فى أن يقف المواطن العراقى فى مواجهة جيش بلاده، وهى خطوة تم استباقها بقرار تسريح الجيش الوطني فى بغداد، واستبداله بميليشيات مسلحة، تعمل كل منها فى اتجاه، وتدعو كل منها لاتجاه. 

أولى مقومات نجاح مخطط الربيع العربى كان النجاح فى استهداف الجيوش الوطنية للدول. 

هدم الجيوش الوطنية كان الطريق الوحيد والأوحد والأساسى والأهم لتمرير الربيع العربى.. تحت شعارات مختلفة. 

وكان ما كان فى العراق، وفى تونس، حيث وقف المواطن فى مواجهة جيشه، فى بغداد والموصل.. وفى العاصمة تونس وقف المواطن فى مواجهة قواته المسلحة على الساحل، وفى الجنوب. 

 لم ينجح المخطط فى مصر، حيث انقطعت دابر محاولة المواجهة بين جيش وشعبه لأسباب جوهرية عدة، راجعة لاختلاف طبيعة الجيش الوطني المصري تفردًا عن جيوش أخرى.. واختلاف عقيدة الجيش المصري القتالية تفردا عن جيوش أخرى. 

 الأهم فى عوامل موت معادلة المواجهة بين المواطن وقواته المسلحة فى مصر، رجال كانوا على رأس قيادة القوات المسلحة المصرية، بإدراك مبكر للذى يدور فى المحيط، وبيقين ثابت أنه طوال تاريخه لم يحدث أن وقف الجيش المصري فى مواجهة شعبه.. لأن جيش مصري كان هو الشعب.

فى العراق كانت الثغرات كثيرة، أولها شكل وطبيعة تركيبة الجيش العراقى التي قامت على أسس طائفية، بتوازنات شديدة التعقيد، بدا معها فى الأزمات الكبرى، أن فك تلك الارتباطات شديد السهولة.. وأن خلخلة أواصر الجيش العراقى من داخله.. شديد اليسر.

فى الأيام الصعبة كان عبدالفتاح السيسي فى خلفية المشهد، يراقب ويتابع.

يقيس هنا، ويعمل هناك، من وسط جيش مصري وطني، لعب منه رجال فيما وراء الشاشات أدوارا نادرة على نماذج الفداء والتضحيات صونا للأرض وللعرض. 

فى ذلك التوقيت كان الخداع قد سرى فى الشارع المصري، بشعارات مزيفة أطلقها بعضهم، وأموال ملونة كانت مستمرة فى التدفق على آخرين.

كانت عجلة تثوير الشارع فى قمة الدوران، تلاعبا بالشعارات المزيفة، والمفردات الجوفاء تأليبًا للرأى العام ضد الدولة، وضد مفهوم الدولة.. وتشويهًا لمفردات الدولة. 

 كان الشارع المصري قد وصل إلى قمة الغليان، فيما كانت هناك كتلة أكبر صامتة على المقاعد فى البيوت.. لم تكن قد فاقت بعد، ولم تكن قد فطنت وقتها لما يجرى على الأرض.. فى الطريق لإسقاط الدولة.

وفى 30 يونيو، بعدما سقطت الأقنعة، وتوارت الوجوه، وبدت السوءات.. نزل الملايين فى الشوارع والميادين استدعاء لعبدالفتاح السيسي لتخليص مصر من حكم “فاشي”.. كشف عن أنيابه بعدما اختطف الوطن..وعاونه بعض من «رموز ثورة» تاجروا بالوطن وعرضوه للبيع فى فاترينات السياسة.. مع بعض من شباب طاهر.. بينت الأيام أنه لا كان طاهرا.. ولا يحزنون. 

(1) 

فى العراق، كانت أكبر الثغرات فى بروفة الربيع العربى، كامنة فى تركيبة الجيش العراقى، القائم على أسس طائفية، وتوازانات مذهبية بدت معها سهولة شديدة فى فك ارتباطه وخلخلة أواصره من الداخل وبسهولة. 

فى الأيام الصعبة ما بعد 2011 وصولا إلى وصول الإخوان الإرهابيين قصر الرئاسة، كانت مخططات الربيع العربى تتفاعل للأمام وتتصاعد فى مصر دفعا للطريق إلى مرحلة المواجهة بين جيش وطني وبين مواطن مصري.

فوت رجال صدقوا الله ما عاهدوا تلك الفرصة أكثر من مرة. شدد عبدالفتاح السيسي (وزير الدفاع وقتها) إلى أن تلك المعادلة إذا كانت قد نجحت فى دول أخرى.. فمستحيل أن يكتب لها النجاح فى مصر. 

استمر الإخوان فى محاولات الدس بين المواطن وجيشه، كان الجيش المصري الحائط الأخير الأكثر صلابة فى مواجهة غول إرهابى جائع يسعى للاستفراد بالمصريين. 

فى لقطة شهيرة متداولة على يوتيوب وقف المشير عبدالفتاح السيسي ليقول: «جيش مصر لم يقتل ولم يأمر بقتل.. جيش مصر لم يغدر ولم يأمر بغدر». حذر السيسي المصريين من محاولات الوقيعة، تأكيدًا على أن جيش مصر لم يحدث على مر التاريخ أن وقف فى مواجهة شعبه.. ولا ناسه.. ولن يحدث. 

فى تلك الفترة كان عرَّابو حقوق الإنسان، يناورون بتشويه المفردات، وتركيب الألفاظ لإثارة الشارع.. وصولًا للمواجهة. 

نحت عرابو حقوق الإنسان، مع الإخوان كلمة «العسكر» وصفا لجيش مصر الوطني، لا ينطبق ولا يتفق الوصف مع طبيعة ذلك الجيش وتاريخه. كان مصطلح العسكر خبيثًا، حمل ضمن طياته أكثر من دلالة أكثر خباثة، لفصل الشارع عن قواته المسلحة، فى المرحلة الأخيرة للاستحواذ على الدولة. 

يعرف عبدالفتاح السيسى، صاحب التاريخ فى الخدمة الطويلة بالقوات المسلحة كثيرا، ويدرك كثيرا، ويعلم كثيرا ما يجرى وكان يجرى فى الكواليس. وجوده على رأس المخابرات الحربية منحه من العلم ببواطن أمور كثيرة معروفة كمعرفة كف اليد. 

فطن السيسي إلى ما كان يحاك ضد المصريين، بدءا من محاولات الوقيعة بين المواطن وجيشه، مرورا بشعارات النصب باسم حقوق الإنسان، وانتهاء بحجج الديمقراطية والتغيير. 

كان يعرف ما الذي ينسج تحت الطاولات من تجار الأوطان.. وما يدور فى كواليس البيت الأبيض، وبين حوائط أجهزة مخابرات أجنبية.. وبعضها عربى، مثل فيه عرابو الجمعيات الحقوقية ركنا أساسيا فى دفع عجلة النار فى البلاد.

كان عبدالفتاح السيسي واعيا بكل هذا.. ومدركا لما فى النهر من مياه كثيرة جرت، لما وقف فى وجه عجلة النار.. ولما أجبر عقارب الساعة على التوقف.. فأوقف الزمن، وقطع مخططا أكبر. وهزم مرضا أصعب من سرطان الدم.. وأخطر من نقص المناعة المكتسبة البشرى.

(2)

عمل السيسي فى الطريق لاستعادة الدولة على البشر والحجر. بدأ طريق إعادة بناء البشر، بإجراءات لاستعادة تنمية الوعى الجمعى وترسيخ على أساس أن العلاقة بين استقرار الدولة وبين التنمية.. تبدأ ببقاء جيشها الوطني قادرا وجاهزا.

لم يكن مخطط دفع الشارع المصري لمواجهة جيشه يمكن أن يكتب له النجاح، كما حدث فى دول أخرى لأكثر من سبب تاريخى وجوهرى.

القوات المسلحة المصرية مؤسسة وطنية متراصة متماسكة، لا تتشكل من طبقة ولا عرق، ولا تقوم على مذهب أو دين. جيش مصر وطني بالمعنى الحرفى للكلمة، يضم كل أبناء المصريين من مختلف الطبقات وفق التزام واحد وإلزام واحد.

منذ عهد القائد المصري القديم حور محب، والقوات المسلحة المصرية ليست خليطا من شعب.. إنما هى الشعب. لم تكن أبدا القوات المسلحة المصرية خليطا من مصريين.. إنما كانت دائما هى المصريين. 

فوتت القوات المسلحة المصرية محاولات دفع عجلة النار إلى المزيد من التقدم للأمام فى الأيام الصعبة استهدافا للمواجهة، ووصولا إلى المرحلة الأخيرة من سقوط الدولة. 

(3)

 كثير مما فى كواليس ما قبل 30 يونيو وما بعدها لم يكشف عنه بعد. كثير مما أقدم عليه عبدالفتاح السيسى، حماية للوطن، واستعادة للدولة لم يعرفه التاريخ بعد. 

كثيرا مما فعله عبدالفتاح السيسى، كى يعكس حركة التاريخ، ويبدل اتجاه عجلة النار لم يطلع عليه الكثيرون. لكن الأكيد أنه سوف يجىء يوم.. ويعرف المصريون أكثر، ويعلم الشارع تفاصيل أكثر عن مدى ما كان يحاك فى الأجواء من خطط لإحراق البلد.. باسم التغيير، وما كان يدار وقتها لتفجير الشارع المصري.. باسم الحفاظ على حقوق الشارع المصري!

على كل، تظل الأحداث الجسام، مهما قيل فيها من تفاصيل ووقائع، تظل حائزة فى طياتها كثيرا من أسرار، وأكثر من مفاجآت تتكشف مع مرور الزمن. 

لا بد أن أياما ستأتى تظهر فيها مزيد من الحقائق عن أشخاص، وحقائق عمن سموهم رموزا. سوف تأتى أيام لتكشف مزيدا من أسرار لوقائع، وتفاصيل لأحداث كانت تدفع بقوة مصر إلى الطريق للهاوية. 

حاز عبدالفتاح السيسي على تعدد شرعيات عدة فى مرحلة هى الأخطر فى التاريخ المصري الحديث.. شرعية القرارات المستحيلة. وكان قرار وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى، بالانحياز إلى إرادة المصريين عندما دوى النداء : انزل ياسيسى فى 30 يونيو 2013. 

كان القرار هو الأخطر فى حياة وزير دفاع وطني، ارتضى كل ما كان يمكن أن يترتب على قراره هذا من نتائج.  نزل السيسي استجابة لنداء الملايين، فى مواجهة تيار شر سكن قصر الاتحادية، وفرش على الأرض.. وأكل الأرز بالأيدى على سجاد القصر الجمهورى، وسط سلاح يعد تجهيزه.. وإرهاب يجرى تدبيره.. من الشرق ومن الغرب.. وفى سيناء.

تلا القرار المستحيل عهود قطعها السيسي بسحق كل تحرك لتهديد الشعب المصري واللعب بمقدراتهم، أو ترويعهم، أو مزيدا من محاولات دفع الشارع إلى حرب أهلية فى بلد لم يعرف طوال تاريخه ذلك المصطلح.. ولا ذلك النوع من الحروب.

رسخ القرار المستحيل شرعيته على امتداد محطات كثيرة حذر فيها السيسي أكثر من مرة: «ماحدش يفكر أنه ممكن يلعب مع الجيش المصري». 

(4)

كانت أياما صعبة فى مرحلة غير مسبوقة فى التاريخ المصري، قديمه وحديثه. 

 لم يحدث أن شهدت مصر تلك التقلبات الاجتماعية والسياسية على الطريق لسقوط حقيقى للدولة. 

لذلك لم يكن ظهور عبدالفتاح السيسي على رأس المشهد هو فقط طوق نجاة لمواطن مصري اكتشف غول الإخوان بعدما كشفوا عن وجوههم الأقنعة.. إنما كان خروج السيسي أيضا، حجر عثرة وصخرة صلبة فى الطريق لإكمال مخطط كان قد بُدء تنفيذه على خريطة الكوكب بإحكام. 

كان مخططا محكما محاطا بإجراءات دافعة من الخارج والداخل نحو «تغيير مزيف» فى دعوات أطلقها من سموا وقتها «رموز الثورة» فى مصر. 

استهدفت أول ما استهدفت دعوات التغيير المزيف أن تأكل الفوضى الأخضر واليابس، وأن تشتعل الحرائق، وأن يحترق البلد. 

استندت دعوات التغيير إلى ما أسموه الهدم لأجل البناء، وامتدت تهويمات تجار الأوطان فى شرح معانى ما قصدوه بالتغيير وقتها، دون قدرة حقيقية على التغيير، ودون رؤية لدى الشارع عن معناه.. فيما دخلت المنظمات الحقوقية المعادلة، لتبقى على هامش الحرائق.. حتى النهاية. 

عمل تجار حقوق الإنسان مع ما سمى وقتها برموز الثورة، على دفع الإخوان نحو الاتحادية، بعد حملة ممنهجة لخداع الشارع بعد محاولات تأليبه. 

منذ بداية الألفية الجديدة، كانت موجة جمعيات حقوق الإنسان نارا تسرى تحت الرماد، فى شوارع القاهرة الكبرى، وفى المحافظات. 

بدأت اللعبة بدفع من ارتدوا ملابس «الحقوقيين» على الساحة وعلى الشاشات، بالتوازى مع طوائف شباب مصري كانت تتنقل فى بعثات تدريب على أساليب حديثة فى تثوير الشارع، وعلى حروب التظاهرات فى الميادين الكبرى بتكتيكات معروفة، ومجربة فى دول أخرى. 

توازت جرائم دكاكين حقوق الإنسان الممولة، وتدريبات شباب الثورة الممنهجة مع عمليات لتغيير كل ما يتعلق بالدولة الوطنية من مصطلحات ومفردات تعبير. 

استهدف عرابو حقوق الإنسان تشويه مفهوم الدولة العميقة ومدلولها مع أن المفهوم كان إشارة إلى المؤسسات الصلبة حائط الصد الأول فى مواجهة محاولات الهدم.

حاول شباب الثورة ورموز يناير تبديل مفهوم «الجيش الوطني» فى الذهنية الجمعية.. بإحلال لفظ العسكر. 

أشاع شباب الثورة، وتجار حقوق الإنسان ألفاظ الحرية مرادفات للفوضى، وروجوا لفكر الاجتراء على مؤسسات الدولة بحجج التغيير، قبل أن يتحد شباب الثورة، مع رموزها فى دفع الإخوان نحو الاتحادية من مؤتمر فيرمونت الشهير. 

لعب عرابو حقوق الإنسان دور محامى الشيطان بشعارات حرية وديمقراطية وتغيير عرضوها فى فاتريناتهم.

تدفقت منذ سنوات ما قبل يناير أموال ضخمة فى الطريق لإشعال الشارع المصري تمهيدا، وتولى عرابو حقوق الإنسان، تأليب الشارع، وجمع المعلومات من الشارع، والدس لدى الشارع، وخداع الشارع، دفعا لما أطلقوه وقتها من مصطلح مبهم شديد الخطورة.. شديد التأثير اسمه «التغيير». 

مصطلح التغيير فى الواقع قد يكون سلاحا ذا حدين. تستطيع أن تقول أن كثيرا ما يكون إساءة استخدام ذلك الشعار سلاحا باليستيا يضرب الأخضر واليابس.. حالة ما إذا وجه نحو القاعدة التي تطلقه. 

يصبح سلاح التغيير، بلا محددات معينة ولا ضوابط ولا خطط ولا رؤى فعلية على أرض الواقع مرادفا للهدم والفوضى.

دخلت مصر 30 يونيو.. وملاعيب الإخوان قد وصلت الحلقوم.

إذا كان ظهور كاريزما السيسي حتمية فى مرحلة كانت الأخطر فى تاريخ مصر، فإن الذي ارتآه عبدالفتاح السيسي أيضا حتميا مع دولة جديدة بعقد اجتماعى جديد، هو ترسيم خطوط فاصلة ببنط كبير شرحا للفارق بين «التغيير للهدم».. والتغيير تطلعا للمستقبل فى جمهورية جديدة بدأ يؤرخ لها التاريخ المصري منذ العام 2014.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز