
مودي حكيم يكتب: “بهجر” و“بهاجيجو”!

بين جورج بهجوري وبهجت عثمان نسبا روحيا على الورق، و ريشة خلاقة لا يجف حبرها، وفرشاة تعرف كيف تمزج الألوان فلا تنضب ولا تبهت.
صبا فنهما على الحياة القائمة و ذوق زمانهما، تشرب الورق وهج أفكارهما. مخيلتهما الخصبة راحت تنسج الخطوط الهازلة التي يسكن خلفها ألف معنى وألف غصة وحسرة و تمزج الألوان لتطلع الصور التي تبهر العين وتبعث في دواخل من يراها الفرحة، و البهجة، والحب.
جورج عبد المسيح بشاي شنودة ساليدس جريس، و الإسم طويل، على ما درج في ذياك الزمن، عرفه الناس جورج بهجوري تيمنًا بمسقط رأسه “بهجورة”، و أما هو فاختصر الإسم بكلمة يتيمة “بهجر”. و تحببا كان صلاح جاهين يفضل عليه “أبو جريج “؛ و بهجت عثمان، إبن بولاق الشعبي، أطل على الناس باسم “بهاجيجو”، حتى كاد إسمه الحقيقي أن يختفي. ولدا في ثلاثينات القرن الماضي و في عامين متتاليين. يجمع إسميهما أحرف مشتركة: “الباء”، في الإسمين، بهجة و حب للجمال، ”الجيم”، جرأة لا حدود لها في الفكر والإبداع .”الهاء”، هبة نورانية تجذب العيون و القلوب.
لكل منهما حكاية مع الكاريكاتور و الرسم التشكيلي ، كانت لها بدايات ولكن لا نهاية لها، ففنهما باق على مر الزمان، ورسوماتهما التي دار عليها، و لما يزل، أخذ و رد، منها يؤرخ و يكتب عن الفن الكاريكاتوري و الرسم التشكيلي في مصر.
“بهجورة” تربض في أعالي الصعيد ، متشاوفة بحالها، فهي أقدم قرى العصر الفرعوني، و إسمها في العصر القبطي “بهو أنجمول” أي “حظيرة الجمال”، و هي لها من إسمها نصيب كبير.
تتحلى”بهجورة”، التي تكنى بها جورج معتزًا، بالمباني القديمة، مُلاكها من علية القوم الميسورين ، منهم من ينتمي إلى عائلة داوود تكلا، الذي تبرع ببناء مدرسة فيها…
و من “بهجورة” خرجت شخصيات كان لها شأنها في ميادين شتى، و منها أيضًا خرج الى الخدمة العامة النائب عبد الرحيم الغول، الذي ظل نائبا طوال أربعين سنة، و إستحق أن يسمى “نائب الصعيد” وأن يقال له " نائب القصب “!
ذات يوم حقق جميل عبد المسيح أمنية شقيقه الأصغر جورج، فاصطحبه إلى منزل كمال أمين، أستاذ الحفر في “كلية الفنون الجميلة “، فساعده على دخول الكلية، فبرز فيها جورج و تفوق.
لمس حسين أمين بيكار، هو من هو الفنان الذي كان يرسم و يتألق و تترنم المحروسة به، و هو مكتشف و مربي المبدعين في الرسم، موهبة جورج، فأخذ بيده و قدمه الى ألكسندر هاكوب صاروخان، الرسام الأرمني الذي كان، زمنذاك، ملء السمع والبصر، و أظلت عباءته مواهب فتية بهرت به و أخذت منه و عنه . لم يبخل على جورج بالرعاية، فتولاه، و قدّمه إلى عبد الغني أبو العينين، و كان مشرفا فنيا في “صباح الخير”، إضافة إلى كونه مصمم أزياء “ فرقة رضا للفنون الشعبية”، و مكتشف و حاضن العديد من المبدعين في فن الكاريكاتور.
فتحت “صباح الخير” قلبها و صفحاتها إلي بهجوري، فبدأت ريشته تمر على ورقها و تبهر.
لم يكن ما يتقاضاه جورج من “صباح الخير” يأتيه بالكفاف، فاضطر للعمل في مكتب بيع الجرائد في فندق “متروبوليتان”، و كان يعمل ثمان ساعات طوال سنتي دراسته الاولى و الثانية، و لم يترك عمله إلا بعدما أصبح قادرا على أن يأكل خبزه من حبر ريشته.
وجد جورج في “صباح الخير” كل الرعاية و كل الحب من زملائه الرسامين و الكتاب المنبهرين بموهبته وإبداعه، الذين كانوا أسرة واحدة، يتقبلون النقد، و النصح، و تنافسهم المحبب هو نحو الأفضل و أحلى.
كانت “روز اليوسف”، في خمسينات القرن الماضي، تنمو و تكبر و تزدهر في كنف الحرية . ذات مرة رسم بهجوري إمرأة تضع قدمها على رأس زوجها، و هذه السخرية اللاذعة قصد بها رواية إحسان عبد القدوس “أنا حرة”… لم يغضب الأستاذ، لم يعنف بهجوري، و لم يسمع له صوت، و… لم يوقف نشر الرسمة الكاريكاتورية المؤذية.
و على مثال تلك الحرية التي عاشت عليها “روز اليوسف”، تربّت و كبرت أختها “صباح الخير”.
لم أعرف لا قبله و لا بعده مثله، فنان تطاوعه الريشة و تنزل عند أمره، فتكرج على الورق، لتتشكل معها الخطوط و تطلع الرسمة لاذعة بهزلها، مبهرة بفكرتها و معناها و مغزاها. و كنت أعجب لفن بهجوري ، فقد حمله هم الوطن و الناس، و ترامت أغراضه النفوس.
غزيرا كان إنتاجه، و لو فسح له المجال، لغمر صفحات “صباح الخير” كلها برسوماته في ساعات معدودات، ومن دون الإستعانة برسام آخر!
كانت معاناتي الأسبوعية، كمخرج و مصمم، هي كيفية احتواء رسوماته في الصفحتين المخصصتين له. فقد كنت مضطرًا إلى تصغير الرسومات حسب مقتضى مساحة الصفحتين… فكان جورج يدور حول نفسه من الغضب والإمتعاض، و سرعان ما كان يربت على كتفي غافرًا لي فعلتي، و يعزي نفسه بأنه كان يستخدم في الرسم أقلام ”فلوماستر” بخطوطها السميكة، فمع التصغير كانت الخطوط تبدو أكثر نعومة… لكن هذا المبرر لم يكن يشفع لي عند جورج و لم يرضه.
ومثل أي عمل فني، ترى الناس بين مادح له و قادح فيه و غاضب منه : رسم جورج مرة "جمال عبد الناصر" بأنف “مميز في الطول” يبدو فيه منقضا مثل النسر، و عيناه فيهما بريق غريب… لم يخف عبد الناصر أنه لم يعجبه أنفه في الرسم، و أوصل إلى بهجوري لومه، إلا أنه لم يغضب، و لم يعاقب، و لم يمنع النشر … في حين لم يسكت أنور السادات على الضيم الذي ألحقه به بهجوري في مواقفه السياسية المحتجة و المعارضة التي جسدها في رسوماته الجريئة اللاذعة.
ولم يسلم بهجوري من إمتعاض "أم كلثوم"، وكان رسم لها أكثر من ٥٠٠ بورتريه مستخدمًا تأثره بالمدرسة “التكعيبية” Cubism في الرسم التشكيلي، فاعتبرت الست أن بهجوري شوه وجهها في لوحاته، و ما كان منها إلا أن طلبت من "محمد عبدالوهاب" إقناع جورج بعدم رسمها كما تعود، إنما يعمد الى تجميل وجهها !
عاد عبدالوهاب الى الست، وحاول ان يفهمها أسلوب بهجوري في الرسم و أنه فنان تكعيبي ، على هدى بابلو بيكاسو وجورج براك وبول سيزان …وإصراره على رسمها لأنها تعني له مصر بشعبها، بفلاحيها، بحاراتها وحواريها، والست هي رفيقته في غربته الممضة، وحنانه وحنينه الى مصر التي يعشقها.
ولهذا قدمها بهجوري منذ سنوات في معرض كامل للوحاتها، فكان الفنان الوحيد في العالم الذي قدم معرضا لفنانة واحدة .
في مرسم حسين أمين بيكار، إنبهر جورج بهجوري بالمدرسة “التكعيبية” التي إنطلقت من فرنسا بين ١٩٠٧ و١٩١٤ وإنتشرت، و أثرها تعدى الفن التشكيلي إلى النحت. كان حسين بيكار يدرسها إلى طلابه و مريديه، فتأثر بها جورج إلى درجة أنه هجر الكاريكاتور، ليكرس ريشته للرسم التشكيلي و للمدرسة “التكعيبية” التي إنطبعت في كل لوحاته.
شعر جورج بهجوري بأنه ما عاد يتنفس الحرية، فقد أعطاه إحسان عبد القدوس أهم درس في حياته، و هو ان يكون حرا في أفكاره، و أن يعبر عن رأيه هو من دون خوف أو وجل، و ليس عن رأي الآخرين.
فأصبح بهجوري يبحث في داخله عن المزيد من الحرية، و هذا البحث جعله يحزم حقائب السفر و… يرحل إلى باريس.
قدم جورج بهجوري هجرته إلى باريس في كتب عدة : “أيقونة باريس”، ”بهجر في المهجر”… و فيها كلمات مرئية عن رحلة الغربة فيأخذنا معه: ( في بعض الأحيان أشعر كأني ولدت من جديد ، و غالباً ما أسير و كأني ممثل ناشئ في فيلم سخيف).
ويعود يقول: (شربت باريس فرسمتها كشجرة يابسة علي نهر السين ، ورقة مورقة ، ثم تساقطت جميعها مع الخريف ، و ذابت رسومي في مياه السين ، و لذلك بحثت عن قلم لايرحم) .
وللنقاد آراءهم في أعمال بهجوري منهم: دانيل شوديه و ريمون مورينو، و رأي أفصح عنه الفنان يوسف فرنسيس عندما كان مديراً للمركز الثقافي المصري بباريس:
(يكفي أن تزور المتحف الخاص ببهجورى في إيفري Evry للتأكد من ثراء و إبداع و أهمية ما يساهم به هذا الفنان الكبير".
محاولة تلخيص عالمه المصور المفعم بالحياة في سطور قليلة يعد بالتأكيد خيانة له .
سنكتفي إذاً بايجازه و عرضه من خلال بعض اللمسات.
يسعي بهجوري وراء حلم إبتكار فن رسم حديث يكون عمره الآلاف من الأعوام! متأثراً بوضوح بفن مصر القديمة و طالما نجح في أسر هذا الحلم و تحقيقه.
فمنذ نعومة أظافره و هو متأثر بواجهات عرض تجار الأنتيكات في صعيد مصر التي تبرز فيها العديد من الآثار الفنية مقطوعة و مفصولة عن مجموعات مختلفة و مع هذا ليست مجردة من القيمة.
يعلق بهجوري علي الجزء أهمية مساوية للأهمية التي يعلقها علي الكل، مهووساً بالتعبير بنظرة العين التي تمثل له مرادفا للحياة : ألا نرمز لوفاة الإنسان بغلق عينيه؟
يورد بهجوري في كل أعماله عيناً شاخصة، تسأل و تشغل البال أحيانًا و لكنها تكشف أيضا عن حزن شديد متماش مع الصفاء).
مقتنياته كفنان تشكيلي توجد في متحف لومانسي في فرنسا ، المتحف المصري الحديث ، متحف الفن الحديث في عمان و متحف الشونة بالإسكندرية، و دخلت لوحاته الزيتية متحف اللوفر بباريس لتمثل الجناح المصري بدعوة من جمعية محبي الفنون الجميلة بباريس، و حصلت لوحته " وجه من مصر " علي الميدالية الفضية، و وضع إسمه في قاعة كبار المشاهير مع جان كوكتو و أذنا فوروادي.
وكرسام كاريكتير، حصل علي جائزة من بينالي إيطاليا للكاريكتير، و جائزة شرفية للرسم الهزلي العربي بدمشق. و حصل كذلك علي جائزة قيمتها 12 الف دولار و ميدالية ذهبية من أسبانيا عن شخصية " الرئيس فرانكو".
وبدلا من أن تكرمه الدولة، ممثلة في وزارة الثقافة، باقامة متحف يضم أعماله إحتراماً لفنه و تاريخه، أقام بهجوري متحفا لأعماله علي نفقته الخاصة و يليق بتاريخه الفني بشارع 26 يوليو بوسط القاهرة ليقدمه هدية للدولة، آملاً أن يوضع هذا المتحف الذي أنشأه وهو في الثامنة والثمانون من عمره علي خريطة المتاحف ليزوره عشاق الفن التشكيلي في أنحاء العالم.
ويشاهدون أعماله عن قرب، و كذا طلاب الفنون و الهواة للإستفادة و التعلم، فهو تجسيد لروح و بيئة و وجوه مصر و رصد لرحلاته و إنطباعاته و توثيق لشمس العالم و قمر غربه.
يعيش جورج بهجوري ستة أشهر في فرنسا و الستة أشهر الأخيرة من السنة في مصر المولع بها.
منزله ومرسمه في أحد شوارع حي معروف بجوار "سينما أوديون" ، الذي يتميز بمقاهيه الشعبية، يجالس- هو الذي تم تصنيفه واحدا من أهم ١٧ رسام كاريكاتوري علي مستوى العالم- الصنايعية، و السباكين، و أصحاب الورش! في المقهى المحاذي لمرسمه، يشرب الشاي و يدخن الأرجيلة ، و يرسم مئات الإسكتشات التي تتحول الى لوحات في مرسمه.
وقد أهدى المقهى لوحتين زيتيتين، إحداها بورتريه لأم كلثوم، يتباهى بهما المعلم صاحب المقهى الشعبي. يضحك بهجوري من أعماقه و هو يقول: بهاتين اللوحتين غيروا إسم المقهى إلى “مقهى البهجوري”.
ما برح تاريخ فن الكاريكاتور يتأرجح على ذكر جورج بهجوري، فمن عنده كان البدء الخالص لفن إبن البلد، وطفق أثره و تأثيره ينتقلان من ريشة الى ريشة، حتى أصبح الكاريكاتور المصري رائدًا و متميزًا ، يعب من أجواء الحرية التي كانت مصر المحروسة تعتز و تكبر و تتشاوف بها.
ولسوف يتذكر المصريون، من باب الوفاء اللازم، ريشة جورج بهجوري سواء في الكاريكاتور أو في الفن التشكيلي.
بهجت عثمان ، أو بهاجيجو تحببا، إبن حي بولاق الشعبي، الذي إشتهر بالفتونة والفتوات أصحاب الروح الطيبة والمروءة و الشهامة، التواقين لمساعدة الضعفاء و البسطاء المغلوبين علي أمرهم في ثلاثينيات القرن الماضي ، صفات أهل هذا الحي مقرونة بصفات وسمات أولاد البلد الجدعان ، أطلق عليه حي الإعلام والصحافة منذ أسس "محمد علي" أول مطبعة صدرت عنها صحيفة الوقائع المصرية، و بعدها ذهب مصطفي و علي أمين الي عشش الترجمان، المكان الرخيص و يسكنه البسطاء في بولاق، لينشأ دار أخبار اليوم و بعدها نقل "محمد حسنين هيكل" مقر الأهرام من شارع مظلوم إلي حي بولاق أبو العلا، وإنطلق التليفزيون من مبنى ماسبيرو في الحي نفسه.
وكان من معالم حي بولاق سينما “كورسال”، التي تملكها أول شركة لصالات عرض الأفلام السينمائية كانت أسستها عائلة إيلي و مصيري الإيطالية سنة ١٩١١.
أهل الحي غيروا إسم السينما من “كورسال” إلى “علي بابا”، لأن مداخلها و دهاليزها أشبه بمغارة "علي بابًا" كما وصفتها الحكاية التراثية.
في هذه الأجواء نشأ بهجت عثمان. في “صباح الخير” كان يحلو لي، كل أسبوع، إنتظار بهجت عثمان، فيطل علي بابتسامته التي تنير ملامح وجهه المتناسقة ليسلمني رسوماته.
لم يكن كاريكاتور بهجت عثمان مجانيا، سطحيا، يستدر الابتسامة المتخابثة معتمدا على الشكل و يغفل المعنى والمغزى، إنما كان يحمل قضية تعكس حال المجتمع.
لكي نرى قبحنا، وأدران مجتمعنا، وتخلفنا الفاضح. Medusa فلقد سلط “بهاجيجو” علينا مرآة “ميدوسا" إستهواه النحت، فدرسه في “كلية الفنون الجميلة “، و تخرج منها سنة ١٩٥٢. مال إلى التدريس ردحًا من الزمن. أثار إنتباه إحسان عبدالقدوس، فضمه الى “روز اليوسف“، فطلّق بهجت النحت، و حمل الريشة بدلا من الإزميل، ووجد نفسه يشكل مع "جورج بهجوري" و" صلاح جاهين" ، المدرسة الحديثة لفن الكاريكاتور.
في “صباح الخير" أطلق نقمته وإحتجاجه، وجرأته كانت تفضح المسائل السياسية المنحجبة عن الناس في رسوماته المعبرة، المبهرة للعين و العقل، الأمر الذي كان يقض مضاجع السلطة… خصوصا عندما دارت ريشته على معاهدة الصلح المصرية - الاسرائيلية، فراح يعنف بسخريته اللاذعة، ويحتج… فما عاد أنور السادات يتحمل ريشة بهجت عثمان، التي كانت ماضية مثل شفرة السيف يلز بها لز الرمح… فكان قرار نفيه الى الكويت، ولم يعد إلى مصر، التي حملها في حقائب السفر المرغم عليه، إلا بعد حادث المنصة بفترة وجيزة.
ومن “صباح الخير” إلى ”الأهالي” و”المصور” و”حواء”، تمدد فن بهجت عثمان و إنتشر إسمه ملء الأفواه والقلوب.
إنتصب بهجت عثمان، حاملًا ريشته في وجه الديكتاتورية التي كان يعتبرها المسبب الأول و الأهم لإنكساراتنا وهزائمنا.
في مجموعة رسوماته التي جمعها بين دفتي كتاب " بهاجاتوس "، يختصر في شخصه كل حاكم ظالم ، و كل متحكم متجبر ، كل محتكر و مستغل ، كل متاجر في الدين ، كل مستفيد من التعصب الديني المقيت ، كل جائر وظالم و آكل مال الغلابة ...و بكلام آخر ، فأن " بهاجاتوس " هو التخلف و المحسوبية و العجز و القهر و الجهل.
في سنة ١٩٩٣، و كأنه أصبح يائسًا من من إصلاح " الكبار"، توجه إلي " الصغار "، فانصرف إلي الرسم في مجلات " سمير " ،" ميكي " ، " ماجد " ، " العربي الصغير " ... كما طرز عدداً من كتب "حواديت " الأطفال ، وأحدها " كنت حماراً " نال عليه "جائزة سوزان مبارك". وقتها كنت عضواً في لجنة تحكيم هذه المسابقة مع عدد من أساتذة الفنون الجميلة و خبراء الكتابة للأطفال ، أبهرنا الكتاب بفكرته و رسومه ، و لم يحتاج منا جهداً في اتخاذ قرار إختياره كأفضل كتاب للأطفال عام 2000.
حمادة بدر، فنانة الدمى المتحركة (العرائس)، كانت حب بهجت عثمان و دنياه كلها. كان يقول أنه علمها كنحات كيف تصنع دميتها، و علمته هي كيف يلون رسوماته.
لم يطق فراقها و توفي بعد أشهر من وفاتها.
ويقف سطر الحديث عن “ بهاجيجو” ها هنا، و أتركه يروي بنفسه قصة زواجه من حمادة بدر التي تحكي الروح الأسرية لصحافيي ورسامي الزمن الذي كان..:
الحمد لله علي الفقر و الجدعنة".. كان هذا شعارنا عندما قررنا أنا و شريكة حياتي الزواج.
أما الفقر فكان بالفعل هكذا.. فأنا في ذلك الوقت كنت أعمل رساما في مجلتي "روز اليوسف" و "صباح الخير"، وكانت مرتباتنا متواضعة بالنسبة لنظرائنا في الجرائد و المجلات الأخرى، و ذلك لأن أمنا السيدة الجليلة "فاطمة اليوسف" صاحبة الجريدة في ذلك الوقت، كانت تري أن كثرة المال مفسدة لنا.
وكان إبنها الأستاذ العزيز الراحل إحسان عبدالقدوس الذي كان يماثلنا في تواضع المرتب، يحاول أن يقنع نفسه ويقنعنا معه بأننا نحصّل في هذه الدار العريقة في النضال، من الشهرة و المجد علي أضعاف ما يناله زملاؤنا في المؤسسات الأخرى، و أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان”. و كنا نقتنع… هذا عن الفقر.
أما الجدعنة، فكان قرارنا أنا وبدر، وهو إسمها و وصفها ايضاً أن نتزوج على الرغم من عدم وجود فائض من المال لتنفيذ هذا القرار، ولكن بالإصرار، و بمباركة من حولنا من الأهل و الأصدقاء، تم لنا ما أردناه ببساطة ويسر..
فالأعزاء إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين تكفلا بأجر موثق عقد الزواج" المأذون"، و الدبل الذهبية "محابس الخطبة"، والمهر أيضاً الذي كان خمسة و عشرين قرشاً. حتى صورة الزفاف، تكفل برسمها الفنان المبدع الصديق رجائي ونيس، بأسلوبه الكاريكاتوري العبقري. أما الشقة، فعلى الرغم من توافر المعروض منها للإيجار في تلك الأيام، فقد إخترنا شقة قريبة من مكان عملي، لأن بدر لم تكن قد إشتغلت بعد.
والشقة بسيطة في تكوينها: غرفة للنوم، و صالة للمعيشة و إستقبال الأحباء من أصدقائنا الذين هبوا لمساعدتنا في تأثيث هذا البيت الصغير.
ولأن الصديق الفنان المبدع "عبد الغني أبو العينين" كان له باب في مجلة “صباح الخير تحت عنوان “نصف حياتك في المنزل” ، يعرض للقراء فيه أثاثاً من تصميمه يجمع فيه بين الأصالة و المعاصرة، ورخص أسعاره ايضا، فقد إخترنا ما نحتاجه منه و نفذنا بعضه – بالتقسيط المريح طبعاً – و الباقي كان هدية من الأحبة الأصدقاء.
وأذكر أننا – بدر و أنا – ظللنا أسابيع نستخدم صحناً واحداً نتبادله للأكل وملعقة و شوكة و سكينا، حتي أحضر لنا صلاح جاهين طاقم الصحون و الملاعق.
أما جمال كامل، فقد أضاف إبداعا آخر للإبداع الذي زين حوائطنا، هو مفرش جميل للطاولة نفرش عليه ورق الجرائد أثناء الطعام. و بذلك أصبحت الطاولة تستخدم للأكل كسفرة و للرسم كمكتب لي و لبدر، و كحامل لماكينة الخياطة تنفذ عليه بدر ما صممته من عرائس. و لا زال هذا المفرش محافظا علي رونقه يغطي الطاولة نفسها حتي الآن).
وربما كان أحلى ما قيل في “بهاجيجو”، ما كتبه طلال سلمان، ناشر و رئيس تحرير “السفير” المحتجبة، في تقديمه لكتاب “ديوان بهاجيجو”:
“ظل يطعم الورق و الريشة و الحبر نور عينيه ، و وهج أفكاره ، و دفق حبه للناس ، متخذاً غالباً شكل التحريض، لعلهم يتنبهون ، لعلهم يمسكون زمام أمورهم بايديهم “.