مروة فتحي
ولنا في الأثر حكايات لا تنتهي
"كلنا سنموت، ولكن هناك من يموت ويختفي أثره، ولكني سوف أموت ويُخلد اسمي".. هكذا حققت فاطمة اليوسف، أو كما تحب أن يُقال لها روزاليوسف، نبوءتها لنفسها، فها نحن اليوم نحتفل بمئوية إصدار مجلتها التي ما زالت شامخة بعد قرن كامل من التنوير والإبداع.
قبل أيام، شهدت مصر احتفالًا مهيبًا بمئوية مجلة روزاليوسف الذي يرأس تحريرها حالياً الكاتب الصحفي الموهوب أحمد إمبابي، حضره عدد كبير من الوزراء والمسؤولين والسياسيين والسفراء والنواب، إلى جانب كوكبة من الإعلاميين والكتاب والصحفيين وأبناء المؤسسة الذين حملوا رسالتها جيلاً بعد جيل.. كان احتفالًا يليق بتاريخ المجلة التي كانت وما زالت منبرًا للفكر المستنير وحرية الرأي والتعبير، ومصنعًا للصحفيين الذين تركوا بصماتهم في مختلف المنابر الإعلامية.
لقد أكدت روزاليوسف، بمسيرتها التي تمتد لمائة عام، أن ما يتبقى من الإنسان ليس ماله أو منصبه، بل أثره، ذلك الأثر الذي يظل حاضرًا مهما مر الزمن، فرغم مرور قرن على صدور المجلة، ما زالت روزاليوسف تقدم وجبة صحفية دسمة في زمن تتسارع فيه الأخبار وتتصدر فيه الصحافة الرقمية المشهد، لتثبت أن الصحافة الورقية حين تملك المضمون والفكر، لا يمكن أن تهزم بسهولة.
ومنذ عشرين عامًا، أعاد الكاتب الصحفي عبدالله كمال، رئيس التحرير الراحل، إصدار جريدة روزاليوسف اليومية في ٢٠٠٥، بعد سبعين عامًا من الإصدار الأول لها في ١٩٣٥، ليعيد معها وهج الاسم ويمنح فرصة لجيل جديد من الصحفيين الشباب آنذاك، ممن كانوا في بداية مشوارهم المهني، أن يتعلموا الصحافة على أصولها من مدرسة روزاليوسف العريقة.
ترك عبدالله كمال أثرًا لا يمحى في نفوس تلاميذه ومحبيه، وبعد رحيله في عام 2013، ما زال حاضراً بينهم بقلمه ومدرسته وفكره، وبعد مرور ١٢ عامًا على وفاته، يظل أثره ممتدًا في أجيال من الصحفيين الذين يشغلون اليوم مواقع مؤثرة في الإعلام المرئي والمقروء، ولعل ما قاله الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس يعبر خير تعبير عن تلك الحقيقة: "أعظم استخدام للحياة هو أن تنفقها في شيء سيبقى بعدك"، فذلك هو الأثر.
والأثر في اللغة، كما جاء في المعاجم العربية، هو العلامة الباقية من الشيء بعد زواله، وما يتركه الإنسان من قول أو عمل يدل عليه بعد رحيله.
وكم من أناس يعيشون بيننا، لكن وجودهم كالهواء، لا نراهم ولا نشعر بهم؛ ببساطة لأن الأثر الذي تركوه كان ضئيلًا، أو لا يستحق أن يذكر، مهما بلغوا من مكانة مرموقة أو موهبة عظيمة، أما الأثر الحقيقي، فهو ما يتركه الإنسان من بصمة في قلوب الناس وفي حياة من حوله، الأثر الذي يمنح الآخرين الأمل، والمعنى، والقدوة.
وتشير دراسات علم النفس والاجتماع الحديثة إلى أن ترك الأثر الإيجابي، سواء من خلال التعليم أو الإلهام أو مساعدة الآخرين، لا ينعكس فقط على من يتلقاه، بل يعود أثره على صاحبه نفسه، فيزيد من شعوره بالرضا والإنجاز والانتماء للمجتمع.
وهكذا تبقى روزاليوسف نموذجًا خالدًا لما يمكن أن يفعله الأثر حين يكون صادقًا ومبنيًا على إيمان بالفكر والحرية، تمامًا كما أرادته مؤسِستها، وكما واصل رسالتها من جاءوا بعدها.
وهكذا يثبت التاريخ أن الأثر لا يزول، فكما قال مصطفى صادق الرافعي: "ليست العظمة في أن يذكر اسمك بعد موتك، بل في أن يظل عملك حيًا في قلوب الناس" .. ولنا في الأثر حكايات لا تنتهي، وحياة أخرى تبقى بعد أن نرحل تستحق أن تروى للأجيال اللاحقة لتتعلم أن لا شيء يبقى سوى الأثر.
 
                                    
                                    













                        




                        
                        



