عاجل
الأربعاء 8 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
المخرج محمود محيي.. اختيار مريم واختياراتنا المرعبة

المخرج محمود محيي.. اختيار مريم واختياراتنا المرعبة

علمتني السنوات تجربة صرت أطبقها الآن عندما أمارس الكتابة وهي حقاً كم تجسدت أمامي كتجربة حية كلما عدت إلى استعادة درس وفهم تاريخ الدراما، ألا وهي الإدراك المتزن لعظمة المبدعين الكبار من كل أنحاء العالم، مع إدراك متصل بأن تاريخ وترتيب ومركزية الكبار هي عبارة عن اتفاق سري بين النقاد وكتاب التاريخ الدرامي وحضور لغة الكتابة وتفوقها ومردودها عند الجمهور الكبير.



وفي هذا السياق أشير لأزمة تبدو عابرة وهي إلغاء جائزة الدولة التشجيعية في شعر العامية هذا العام وما أثاره من غضب محدود من شعراء العامية المصرية، فهذا انحياز مضمر ضد العامية المصرية وإنكار لبيرم التونسي وعبد الله النديم وفؤاد حداد، وهذه واحدة من مظاهر صنع تراتبية المركز الثقافي للفصحى نفياً للعامية المصرية واللهجات الأخرى.

إنها مفاجآت تحدث في عالمنا الثقافي والفني لا مبرر لها، وإن كانت ذات صلة مباشرة بإنكار حق الإبداع للعلامات المصرية المضيئة القادرين على الفعل في الفنون التعبيرية المصرية، مع تآكل أو غياب مكافآت منطقية في عالم النشر والكتابة ذات الصلة بالفكر والثقافة بمعناهما الجاد.

ولعل تجربة يوسف إدريس المتفردة في الكتابة مع إعلانه أنه لم يكن يقرأ كثيراً، ومع تفرد كاتب ستيني كبير هو ميخائيل رومان الذي لم يقرأ إلا عدد محدود من المسرحيات قبل الكتابة المسرحية المتفردة، وعدم دراسة الأبنودي النظامية للآداب إلا متأخراً بعد ا لشهرة، ومثله سيد حجاب من ذات الجيل وملاحظات عدة حول مبدعين كبار حضروا من خارج الدراسات النظامية للدراما والآداب، وعلى رأسهم في إنجلترا وليم شكسبير الذي دخل التاريخ من باب العمل في فرقة مسرحية بينما ذهب معاصروه من الكتاب أصحاب الدراسة الأكاديمية المنظمة إلى عالم النسيان ومنهم جون درايدن.

كلما تذكرت ذلك فكرت في أهمية التخفيف من ضغط سلطة مركزية النصوص الكبرى والإبداعات الكبرى على المبدعين الجدد، سر مدهش في الإبداع هو الموهبة الساطعة.

وحقاً ليست هذه دعوة إلى انعدام أهمية القراءة والتراكم المعرفي أو أهمية الدراسة الأكاديمية.

ولكن علمتني التجربة أن المعرفة على عمقها يجب أن ينساها المبدع شعورياً عندما يمارس الإبداع، ويتركها تتجلى بوضوح عبر اللاوعي وعبر تفاعل التراكم المعرفي مع الظروف الموضوعية لتجربة الإبداع.

ذلك أن لحظة الدهشة والبداهة ونور الإبداع تأتي من خصوصية الذات وبصمتها الأصلية.

وعبر دراسة تاريخ الدراما، ومنها تاريخ الإبداع في الفنون المصرية التعبيرية القريب في مصر الأربعينيات من القرن العشرين ومصر الستينيات، حضرت الظروف الحاضنة للإبداع مرة في حضور المجتمع المدني ومؤسسات إنتاج الثقافة الخاصة، ومرة أخرى في حضور الدولة المركزية ومؤسساتها القوية.

وصاحب ذلك الازدهار صحافة حية وحركة نقدية مزدهرة وإعلام يصل للجمهور، وجمهور كان لديه من الوقت والفهم والقدرة الاقتصادية على تلقي الفنون والاحتفاء بها.

لماذا أردد الآن تلك الهواجس النقدية؟

لأنني أولاً أخشى على جيل المبدعين الجدد من مقارنة إبداعهم مع إبداع الكبار الذين حظوا بالاعتراف النقدي والجماهيري، وعلى النظر لأحلامهم ببرود وحياد ضار.

إذ أتأمل بكل الدعم الانفجار العاطفي للمخرج محمود يحيى الذي أعلن إضرابه عن الطعام لحين عرض فيلمه "اختيار مريم" موجهاً هذا الإضراب إلى مؤسسة مستقلة هي دار عرض زاوية، ذلك أنه يعرف أن الاختيارات التي تمثلها زاوية هي آخر أمل ممكن دفعه لأن يقوم بمغامرة انفاق أمواله كلها لتقديم فيلمه الأول.

أما أصحاب التاريخ والاعتراف واكتمال التجربة الإنسانية والقدرة على العطاء فلن يضرب أحد منهم عن الطعام، فمعظمهم يفضل اختيار الهدوء والسكينة والسلام على الرغم من أنها سكينة بطعم مرارة الحرمان من الإبداع وخدمة الثقافة والفن المصري.

ولهذا أخشى أيضاً من انصراف تدريجي للجمهور عن الفنون التعبيرية ومن يأس نقدي أو من استمرار تكريس متلازمة زمن الفن الجميل والانصراف عن الاعتراف بالموهوبين الجدد، الذين حرموا أيضاً من فعل الانتظام التراكمي في الإبداع.

فهل نستطيع الاستمرار هكذا لسنوات مقبلة، دون أصوات وأسماء تحظى بالتوافق والفرص المنتظمة وتخاطب وعي الجماهير وإدراكها؟

يحزنني حقاً أنني كلما دعيت للحديث عن القوة الناعمة المصرية في محفل دولي عدت إلى أم كلثوم وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم من ذات الجيل ومن الفترة الذهبية ذاتها.

فهل نمارس إرهاباً للجدد عبر تركهم في الفضاء العام بمفردهم كلما لاح في الأفق مبدع جديد قادر على التأثير؟

ولماذا نترك أصحاب البصمات الإبداعية التراكمية عن عمد دون حقهم في الانتظام الإبداعي؟

استشعر حقاً خطراً واضحاً هو التفتيت والاستهلاك المنظم للمواهب الكبرى، وإهدار طاقات المبدعين، وانصراف عن قدرة النقد والجمهور معاً على إنتاج علامات فنية كبرى تحظى بالاعتراف النقدي والجماهيري معاً.

تبقى الرموز المصرية الكبرى رموزاً في التاريخ وللأجيال الجديدة القادمة، ولكن يبقى السؤال الآن حقاً هل اتفقنا على إهمال أصحاب التجارب التراكمية الكبرى وتركهم خارج دائرة العمل المنتظم، يعاودون ذكراهم كتاريخ قريب، فنرد عليهم بذكرى الرموز الكبرى؟

ثم هل نمارس تخويفاً وإنكاراً للجدد والموهوبين بنوع من القسوة التي تتحدى ميلاد الجديد؟

من يصر على هذا التفتيت ونثر متصل لا شعر فيه لإنتاجات تظهر ليتم استهلاكها وتختفي؟

حقاً ورغم غرابة التصرف فإن إعلان المخرج محمود يحيى الاحتجاج الحاد بالإضراب عن الطعام هو علامة على إصرار الشباب وانفجارهم العاطفي.

من جعل النجومية عبر بوابة إغاظة الجمهور وصنع المشاهد الغرائبية الصادمة، ومعظمها مشاهد رخيصة أو مبتذلة، أو على أقل التقديرات مفتعلة إن شئت الترفق بها؟

من جعل من أيام المبدعين الجادين عبئاً، من احترف إنكار وتهميش المبدعين المنحازين للفن بمعناه الجمالي والمعرفي؟

من يصر على إقامة سد منيع بين أصحاب الخبرات والتجارب التراكمية وبين الأجيال الجديدة؟

كيف لسنوات طوال تمر تقرب من ربع قرن من الزمان تعز علينا فيه ظهور علامات مضيئة تحصد الاعتراف العام إلا قليلاً؟

من يؤكد كل يوم أمام الأجيال الجديدة أن طريق النجاح والثروة غير ممهد للجادين المخلصين المستقلين في رؤيتهم الإبداعية؟

ماذا نقول إذن للأجيال الجديدة هل نقول غادرونا إلى عالمكم الخاص؟

ألا يمكن حقاً مجدداً عودة رؤية الجمهور للفنانين وللفن بتقدير وثقة ومتعة بمقدار منتصف القيمة لما حصده زمن الفن الجميل؟

أسباب عديدة لكنني أردت أن أؤكد للجادين المبدعين الجدد أنه أمر ممكن، فقط البحث عن انتظام التجربة الإبداعية وعدم الشعور بالخوف أمام الرموز الكبرى، فما زالت بلا شك مصر قادرة على إنتاج الرموز.

 

فلا يزال في مصر حضن دافئ ونقاط النور يستطيع بها كل مغامر مبدع أن يحظى بالحق في عرض إبداعه.

لا يستحق محمود يحيى صاحب فيلم "اختيار مريم" هذا التنمر، ألم يقدم أحمد زكي النجم الأسمر الكبير على محاولة الانتحار عندما ضاعت منه فرصة البطولة في فيلم الكرنك؟ ثم صار أحمد زكي أحد رموز مصر المضيئة والذي ضموه إلى نجوم زمن الفن الجميل.

رفقاً بالمبدعين الجدد ورفقاً بالراسخين أصحاب التجربة من قسوة المقاولين ومن غلظة الاحتكار ومن اللامبالاة المرعبة أمام فنون وثقافة مصر الكبيرة. 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز