عاجل
الثلاثاء 4 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مصر للبترول
مصر للبترول
مصر للبترول
مصر للبترول
البنك الاهلي
خدعوك فكسبوا!

خدعوك فكسبوا!

خدعوك فقالوا إن من يظهر في فيديو على تيك توك متحدثًا إلى مستخدمي السوشيال ميديا ودموع التماسيح تملأ عينيه غلبان ومقهور ومحتاج والدنيا جاية عليه.. خدعوك فقالوا أن من يلعب على وتر الإنسانية ويثير عواطف الناس ويدغدغ مشاعرهم بكلمات ويفجر بداخلهم شهامتهم مسكين ويستحق التعاطف والمناشدة والمساعدة. خدعوك  كثيرا وكثيرا لكن عزيزي القارئ أرجوك قوِّ قلبك ولا تنخدع لأن المخادعين في عصرنا الرقمي أصبحوا مثل الهم على القلب لا حصر لهم ولا عدد.. لكن لماذا ننخدع من قبل هؤلاء ونصدقهم إلى حد التعاطف؟!



الإجابة تتجسد بوضوح في واحدة من أبرز القصص التي شغلت الرأي العام مؤخرًا، بطلتها التيك توكر جميلة، التي خرجت على جمهورها في مقطع مصور وهي تستعطف وزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف ليرفع الغياب عن أبنائها، بحجة ضيق الحال وظروفها الصحية، مشهد دموع وكلمات تفيض بالاستجداء، دفعت الكثيرين إلى التفاعل معه ومشاركته على نطاق واسع، حتى وجد طريقه إلى صفحات معارضة وروجت له بوصفه انعكاسًا لمعاناة الأسر المصرية.

غير أن المتابعة الدقيقة كشفت تناقضًا لافتًا بين الخطاب والواقع؛ فالسيدة نفسها معروفة بنشاطها الدائم على المنصة، حيث تبث مقاطع مباشرة بشكل شبه يومي في ساعات متأخرة من الليل، وتستقبل خلالها دعمًا ماليًا وهدايا افتراضية من متابعيها قد تصل قيمتها إلى آلاف الجنيهات، كما أن مظهرها ومظهر أبنائها لا يوحيان بالفقر المدقع الذي حاولت تصديره، فالمفارقة هنا أن من تدّعي عدم قدرتها على دفع المصروفات الدراسية، تنفق في المقابل على الباقات الإلكترونية، وتخصّص وقتًا وجهدًا لإعداد محتوى ترفيهي يُدر عليها ربحًا، في مشهد يعكس بوضوح كيف يمكن للمنصات الرقمية أن تتحول إلى ساحة لاستدرار التعاطف وتحقيق المكاسب.

وبعيدًا عن ساحة السوشيال ميديا وسباق الترند وحروب المشاهدات واللايكات والهاشتجات، هناك ما يقارب 12 مليون امرأة معيلة في مصر، بين أرامل ومطلقات وسيدات أنهكتهن قسوة الظروف ومتاعب الحياة، لم يلهثن وراء أضواء الترند ولم يبحثن عن وهم الكبسات والهدايا الافتراضية، بل خضن معارك الحياة بعرق الجبين، نساء يعملن بأياديهن وأسنانهن لتأمين لقمة العيش لأبنائهن؛ بين من تكافح في الأسواق، ومن تكد في المصانع، ومن تصحو قبل الفجر لتبيع ما تجود به الأرض، هؤلاء لا يطلبن سوى الستر والكفاف، ولا يتوسلن العطف عبر مقاطع مصطنعة، بل يكتبن حكايات كفاح حقيقية تستحق أن تروى وترفع لها القبعات.

تشير الدراسات التي أجرتها فرق بحثية في علم النفس العصبي وعلم النفس الاجتماعي، مثل تلك المنشورة في المجلة الدولية لعلم النفس ومجلة بحوث التسويق، إلى أن المحتوى الذي يثير العواطف يؤثر مباشرة على طريقة تفكير الإنسان، فالمشاعر القوية تنشط منطقة اللوزة الدماغية المسؤولة عن معالجة العواطف، ما يجعل الدماغ يركز على العاطفة أكثر من الوقائع أو المنطق، وهذا يفسر لماذا يصدق الناس بسهولة القصص المؤثرة، حتى لو كانت غير دقيقة، ولماذا يزيد احتمال تفاعلهم مع هذا المحتوى سواء بالمشاركة أو التعليق، وهو ما يفسر انتشار الفيديوهات التي تستغل التعاطف على منصات التواصل الاجتماعي.

ليس كل من يطل علينا بدموع أو كلمات مؤثرة هو بالضرورة ضحية أو محتاج، فالإنترنت بكل ما فيه من سرعة انتشار وغياب للتدقيق، جعل من السهل أن يتصدر المشهد من يعرف كيف يلعب على أوتار العاطفة، حتى لو كان في واقعه يعيش بظروف مغايرة تمامًا لما يروجه، ولقد علمتنا الحياة أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الوقائع مهما اختلفت تفاصيلها تظل متشابهة في جوهرها، فذاكرتنا لم تزل تحتفظ بواقعة عامل النظافة محمد عادل، الذي عرف إعلاميًا بـ"صاحب واقعة الطرد من مطعم الكشري"، حين تحول بين ليلة وضحاها إلى بطل شعبي استدر تعاطف الملايين وحقق مكاسب هائلة وراء ذلك، قبل أن تنكشف الحقيقة ويلقى القبض عليه لتنفيذ أحكام قضائية صادرة بحقه، والوقائع كثيرة، لكننا نملك ذاكرة أشبه بذاكرة السمك.. ننسى بسرعة، فنسمح للكارثة بأن تتكرر بنفس الملامح وكأننا أول مرة نشاهدها.

التعاطف قيمة إنسانية عظيمة، لكنه حين يستغل ويتحول إلى وسيلة للكسب أو التلاعب، يصبح خداعًا صريحًا، ويبقى الوعي هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يحصن المجتمع من هذه الموجة المتنامية من التسول الرقمي واستغلال المشاعر، وفي زمن امتلأت فيه الشاشات بدموع التماسيح والقصص المصطنعة، يبقى الغلبان الحقيقي بعيدًا عن كل هذا الصخب، الغلبان لا يعرف طريق اللايفات ولا يملك ثمن الباقات، ولا يتاجر بضعفه أمام ملايين الغرباء، الغلبان هو الذي وصفه القرآن الكريم: «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا»، فلا تجعلوا مشاعركم سلعة رخيصة في أيدي من يحسنون التمثيل، ولا تمنحوا تعاطفكم إلا لمن يستحقه بالفعل، أما المخادعون، فمهما تنوعت حيلهم، فلن يطول بهم الزمن قبل أن يسقط قناعهم.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز