عاجل
الأحد 7 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مختارات من الاصدارات
البنك الاهلي
أبو العالم الرقمى

أبو العالم الرقمى

نحن لا نبدأ من «الصفر»، بل نمشى على خُطى من سبقونا. فى كل شاشة نلمسها، وكل إشارة نبثها، تختبئ طبقات من الابتكار البشرى،  أفكار تراكمت، تجارب تشكلت، ورؤى وُلدت من رحم ما ظنه الآخرون مستحيلاً. 



فكما نبنى بيوتنا على أسس قدمها أجدادنا، تبنى التكنولوجيا الحديثة مجدها على لبنات وضعها رجال ونساء لم يُذكروا كثيرًا، لكنّ أثرهم يسرى فى كل نبضة رقمية نعيش بها اليوم. 

ففى زمن تنتقل الكلمات والصور والمشاعر بين القارات فى لحظات، قليلون من يعرفون أن هذه المعجزة الرقمية بدأت من عقلٍ هادئ ومحب لآلة الكلارينت الموسيقية.

وُلد «كلود إلوود شانون» عام 1916 فى بلدة صغيرة بولاية «ميشيجان» الأمريكية، ومنذ صغره، لم يكن يهتم بالنشاطات الاجتماعية أو البدنية الشائعة بين أقرانه، بل كان يميل إلى العزلة التأملية والتجريب العقلى،  حيث يقضى ساعات يفكك الأجهزة محاولًا فهم أسرارها. 

وفى عمر 12 عامًا، ربط منزله بمنزل صديقه بخط «تليغراف» باستخدام سلك شائك من سور المزرعة، لم تكن تلك مجرد لعبة طفل، بل بذرة عبقرية ستنمو لاحقًا لتعيد تعريف التواصل أو «الاتصال البشري». 

فى عام 1936، تخرّج «كلود شانون» من جامعة ميشيجان حاصلاً على درجتى بكالوريوس، واحدة فى الهندسة الكهربائية والأخرى فى الرياضيات، وبعدها بعامين فقط، وفى عمر 21، التحق بمعهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا» لنيل درجة الماجستير فى الهندسة الكهربائية. 

هناك، كتب أطروحته التي غيّرت كل شيء، بيّن فيها أن الدوائر الكهربائية يمكنها تنفيذ العمليات المنطقية من خلال حالتين فقط: تشغيل وإيقاف ـ ما يُعرف اليوم بـ «1» و«0». هذه الفكرة البسيطة ظاهريًا، كانت اللبنة الأولى لـ«الثورة الرقمية» بأكملها. 

واصل شانون دراسته بنفس المعهد ليحصل عام 1940 على درجة الدكتوراه فى الرياضيات، بأطروحة تناولت موضوعات فى علم الوراثة وعلاقتها بالرياضيات.

لكن، جاء إنجازه الأعظم فى عام 1948، حين نشر شانون بحثه الأشهر «نظرية رياضية فى الاتصال»، فى ورقة علمية لا تتجاوز الـ30 صفحة، أعاد تعريف «المعلومة» نفسها، حيث قدم مفهومًا جديدًا تمامًا، وهى تتلخص فى أن المعلومة يمكن قياسها، ويمكن نقلها بدقة مذهلة، ولأول مرة فى التاريخ، أصبح للمعلومة وحدة قياس وهى ما يطلق عليه «bit». 

بهذا الاكتشاف، وضع شانون الأساس النظرى للإنترنت والهواتف الذكية والبث الرقمى والذكاء الاصطناعى،  بمعنى آخر كل ما نستعمله اليوم من أجهزة واتصالات تقوم على أفكاره. 

ولكن «شانون» لم يكن مجرد عبقرى رياضيات، كان رجلاً مرِحًا، يصنع أجهزة تسخر من نفسها، مثل آلة لا تفعل شيئاً سوى إطفاء ذاتها. كان يقود دراجة أحادية فى ممرات مختبرات «بيل» ـ إحدى أهم المؤسسات البحثية فى تاريخ التكنولوجيا والاتصالات، ويتسابق فى اختراع ألعاب ذكية مع زوجته. 

كانت «بيتي»، زوجته وشريكته فى رحلته البحثية، أكثر من مجرد رفيقة ـ تزوجا عام 1949 بعد انتهاء زواجه الأول عام 1941 الذي استمر لمدة عام. كانت عالِمة رياضيات ـ زميلة له فى مختبرات «بيل»، تلتقط صورًا لتجاربه، وتشاركه شغفه بالتجريب والابتكار. لم تكن العلاقة بينهما تقليدية، بل أشبه بشراكة عقلية وروحية، حيث يختلط الحب بالفضول، والمرح بالمعرفة. فكانا يتنافسان أحيانًا فى اختراع ألعاب ميكانيكية، ويتشاركان الضحك بين المعادلات والدوائر. 

وبمرور الزمن، بقيت «بيتي» حارسةً لذاكرة شانون، حتى حين غادره وعيه فى سنواته الأخيرة. 

ورغم كل هذا، لم يسع «شانون» إلى الشهرة. لم يكن من روّاد المؤتمرات أو منصات الإعلام. كان من أولئك الذين يفضلون أن يغيّروا العالم.. ثم ينسحبون بهدوء، غيّر كل ما نعرفه عن الاتصال والمعلومة. 

ربما آن الأوان لنُعيد الاعتبار لأسماء مثل «شانون»، أولئك الذين صنعوا الحاضر من خلف الكواليس، وبنوا المستقبل بحسابات هادئة، لا بضجيج العناوين.

نقلًا عن مجلة صباح الخير

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز