

منير مطاوع
لأول مرة: حكاية «ماندارين أورينتال»
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
من الإنجازات الصحفية التي أعتز بها، هذا التحقيق الذي اكتشفت فيه الموقع السرّى الذي جرت فيه أكبر جريمة ضد الأمة العربية: مؤامرة «سايكس - بيكو»، التي قسّمت الدول العربية وتقاسمتها القوى الاستعمارية وقتها بزعامة بريطانيا وفرنسا.. بعد انهيار الدولة العثمانية.
وكتبت: لا يكاد يمر يوم دون أن تطالعنا الصحف والمواقع الإلكترونية وشاشات التليفزيون بعبارة «سايكس - بيكو الجديدة».. عن مخططات أمريكية صهيونية غربية ليس لتقسيم العالم العربى كما جرى فى «سايكس - بيكو» الأولى.. ولكن لإلغاء وجود الدول العربية وتفتيتها وتحويلها إلى كيانات طائفية قزمية متشرذمة لا حول لها ولا قوة.. أى القضاء على العرب تمامًا!
«سايكس - بيكو الجديدة» تطوير للقديمة بصيغة عكسية.
فالأولى مزقت العالم العربى لصالح المستعمرين وإسرائيل، التي نشأت كامتداد طبيعى لمؤامرة «سايكس - بيكو» من خلال وعد بلفور، أما المؤامرة الجديدة فهدفها واحد واضح هو الإجهاز على هذه الأمة تمامًا.
قبل سنوات كنت قد أمضيت ساعات طويلة فى مبنى لندنى عريق يطل على حديقة «هايد بارك» الشهيرة كنا نحتفل بعيد زواجنا، فاخترنا هذا المكان لتمضية عصر ذلك اليوم فى شرفة كبيرة تطل على الحديقة المتناهية الأطراف، ثم تناول العشاء.
علمت آنذاك مصادفة أننى فى المكان الذي شهد وضع وترتيب وتوقيع وحبك مؤامرة «سايكس - بيكو» السرية التي أسفرت عن اتفاقية أبرمتها القوى الاستعمارية التي كانت تحكم العالم فى ذلك الوقت، بريطانيا العظمى وفرنسا، لخلافة دولة الخلافة العثمانية بعد انهيارها، ووراثة ممتلكاتها والبلدان التابعة لها كغنائم حرب.
كان ذلك فى نوفمبر عام 1915 وحتى مايو 1916.
أدهشنى وقتها الموقع فى قلب لندن، فى أكبر أحياء الأسواق الفاخرة، حيث محلات «هارودز» الشهيرة التي كان يملكها وقتها المليونير المصري محمد الفايد، والعمارة رفيعة المستوى والمحيط السكنى الراقى هنا التقيت نزار قبانى فى مسكنه، وهنا تقع السفارة الكويتية، وليس بعيدًا مقر دار رياض الريس للنشر، وأكثر من مطعم عربى فاخر، وفندق البرج الذي ولدت فيه فكرة إصدار أول جريدة يومية عربية من لندن «العرب».
وهنا التقيت المخرج السورى مصطفى العقاد صاحب فيلم «الرسالة» فى هذا الفندق، هنا فى حى «نايتس بريدج» (كوبري الفرسان) كان يقيم فارس الكرة المصرية المتقاعد صالح سليم.
فى ذلك الوقت سيطرت على ذهنى فكرة تحرّى قصة هذا المكان، ورحت أتتبع وقائع الاتفاقية التي تم تدبيرها هنا فى هذا الفندق الفخم.. القصر، فندق «هايد بارك» فى قلب عاصمة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس (كما كانت بريطانيا تطلق على نفسها).
وتجمعت لدىَّ معلومات من مصادر مختلفة. إلا أن فكرة تقصى المؤامرة لم تلق اهتمام وسائل الإعلام والنشر وقتها. وتاهت وسط أفكار ومشاغل أخرى أخذتنى بعيدًا عنها.
فى تلك الأيام قبل أكثر من 30 سنة، لم تكن الفكرة تثير الاهتمام لدى وسائل الإعلام العربية، فلم تكن عبارة «سايكس - بيكو الجديدة» قد صكت، ولكنها ترددت فى نهايات القرن العشرين فى وسائل الإعلام العربية والعالمية وفى الخطاب السياسى لقوة الاستعمار الأمريكى الجديد، حتى إن كبرى الصحف الأمريكية «نيويورك تايمز» نشرت فى ذلك الوقت تفاصيل «سايكس – بيكو الجديدة» التي شملت تقسيم العراق وسوريا وجوارهما إلى 14 دويلة طائفية صغيرة، ومحو فكرة الدولة القومية، ويتعلق الأمر أيضًا بكل من ليبيا واليمن والسعودية.
منظرون ومخبرون
وراء هذه الأفكار والمخططات منظرون أبرزهم برنارد لويس، الذي يعتنق مفاهيم صهيونية معادية للعروبة والإسلام، ويدعو للقضاء على الأمة العربية، متهمًا الشعوب العربية بعدم القدرة على مواكبة الحياة المتقدمة.
وكان قد بدأ تنظيراته هذه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى فى كتب وأبحاث ومحاضرات ومؤتمرات شارك فيها كأستاذ جامعى متخصص فى الشرق العربى ودراسة العالم الإسلامي، وكخبير ومخبر لدى أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية.
وبدأنا فى ذلك الوقت نسمع مصطلحات «نظام عالمى جديد» ..«شرق أوسط جديد» حملتها لنا الآلة الاستراتيجية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ورددها رؤساء القوة العظمى المنفردة بالعالم، من ريجان إلى جورج بوش الأب إلى بيل كلينتون، إلى باراك أوباما ومن بعدهم.
.. وهى بشكل أو آخر تنويعات وتطويرات للمفهوم الذي كرّسه النظام الاستعمارى العالمى القديم، بقطبيه البريطانى والفرنسى من خلال اتفاقية «سايكس - بيكو».
فى هذا المكان المثير، الذي ينعم بجمال غامض، جرت وقائع المؤامرة قبل 110 سنوات.
فعلى مدى شهور تبادل البريطانى مارك سايكس والفرنسى فرانسوا جورج بيكو وثائق تفاهم بين الخارجية البريطانية والخارجية الفرنسية وبمتابعة روسيا القيصرية.
فى نوفمبر 1915 عينت الحكومة الفرنسية «بيكو» قنصلها العام السابق فى بيروت مندوبًا ساميًا لمتابعة شؤون الشرق الأدنى ومفاوضة الحكومة البريطانية فى مستقبل البلاد العربية.
واجتمع مع «سايكس» المندوب السامى البريطانى لشؤون الشرق الأدنى، بإشراف مندوب روسيا وأسفر ذلك عن اتفاقية لتحديد مناطق نفوذ الدول الثلاث.
هنا فى هذا المبنى وفى سرية تامة وكتمان رهيب ودون أى إشارة، تم التوصل إلى هذه الاتفاقية خلال الفترة من نوفمبر 1915 إلى مايو 1916.
وكانت خلافات قد أصابت المتفاوضين البريطانى والفرنسى على تفاصيل تقسيم الأرض العربية المنهوبة، فتعطل التوصل إلى الاتفاق النهائى لفترة من الزمن.
وعندما تم التفاهم بين اللصين بدأ العمل فى تطبيق خطوات التقسيم والسيطرة والاستعمار والاحتلال حسب الخرائط الجديدة للمنطقة. ودون أن يسمع أحد أو يدري.
لولا قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية فى روسيا، ووصول الشيوعيين إلى سدة الحكم عام 1917 ما تم الكشف عن الاتفاقية، وإثارة الشعوب التي تمسها، وإحراج فرنسا وبريطانيا.
وكانت هناك ثورة شعبية عربية كبرى ضد السلطة العثمانية قبل عام من توقيع الاتفاقية، شجعتها بريطانيا كما ظهر فى مراسلات بعد ذلك بين الشريف حسين أمير مكة والمندوب السامى البريطانى فى مصر السير هنرى مكماهون. وكان مما ترتب على «سايكس - بيكو» صدور وعد بلفور الذي مهد لقيام دولة إسرائيل بعد انتهاء انتداب بريطانيا على فلسطين.
قصر أصبح فندقًا
هنا فى قلب لندن على ناصية أكبر حدائقها الملكية العامة «هايد بارك» على مدخل حى «كوبري الفرسان» الراقى يقع المبنى العريق الذي أصبح الآن يحمل اسم «فندق ماندارين أورينتال هايد بارك». عمر المبنى نحو 136 سنة، فقد أقيم فى عام 1889 ليكون ناديًا خاصًا للرجال فقط، وهو الغطاء المعلن لمكان خصص لأعمال التخابر والتجسس وغيرها من الأنشطة السرية التي لا بد من التغطية عليها بلافتة «نادى خاص». المبنى الذي صمم كقصر فاخر شديد الرحابة والاتساع والأبهة كان يسمى «قصر هايد بارك». وكان الأعلى فى لندن كلها. وأثار ارتفاعه نزاعًا بين سكان المنطقة الراقية والسلطات إلى أن تدخل مجلس العموم البريطانى (البرلمان) فى الأمر.
المبنى الذي جلبت له أفضل أنواع الحجارة والمرمر والرخام تحول عام 1902 إلى فندق رفيع المستوى يسكنه ضيوف العائلة الملكية البريطانية وتقام فيه حفلات ومناسبات يحضرها الملك والملكة خارج نطاق القصور الملكية، وهنا جرت المفاوضات السرية «سايكس - بيكو».
حضرت هنا عام 1996 حفل زفاف فتاة مصرية ابنة الصديق الكاتب المهاجر أحمد عثمان الذي أصاب شهرة فى أوساط النشر البريطانية والأمريكية بمؤلفات وأبحاث مثيرة للجدل حول التاريخ المصري وتاريخ اليهود. وكان نجمى الحفل المطرب عمرو دياب والراقصة دينا.
إلا أن المكان شهد على مدى تاريخه حفلات عظيمة حضرها الملك جورج السادس وزوجته الملكة إليزابيث وحفلات أخرى فى أزمنة لاحقة حضرتها الملكة إليزابيث الثانية أم الملك الحالى تشارلز الثالث.
وتذكر لنا إدارة الفندق أن الاحتفال بعيد الميلاد الثمانين لمارجريت تاتشر- أول امرأة ترأس الحكومة البريطانية - أقيم هنا وحضرته الملكة وزوجها الأمير فيليب دوق أدنبره، ورئيس الوزراء آنذاك جون ميجور ورئيس الوزراء السابق تونى بلير.
عندما تدخل الفندق الفاخر الآن وتتجول فى أروقته وقاعاته ومطاعمه وصالاته لن تجد لأجواء اتفاقية «سايكس - بيكو» أى أثر بالطبع، ستجد حمام سباحة مغطى، وصحف اليوم متوفرة بالمجان وبينها «الجارديان» التي تصدر منذ عام 1821 والتي ينسب لها الانفراد بنشر خبر كشف تروتسكى وزير خارجية دولة الثورة الروسية لفضيحة «سايكس - بيكو» عبر تقرير مطول بعث به مراسل وكالة رويترز فى بطرسبرج يتضمن تفاصيل الاتفاقية السرية. لا نفي.. لا إثبات!
نسأل الإدارة الحالية للفندق عن الاتفاقية التي تم تدبيرها وجرت مؤامرتها هنا لتقسيم الهلال الخصيب، وأقام من أجلها المستر سايكس والمسيو بيكو عدة أشهر فى هذا الفندق، وكانا يقومان بجولات مكوكية لبعض العواصم المعنية شملت القاهرة وبطرسبرج وباريس. نسأل ولا نجد إجابة واضحة.. لا بالنفى ولا بالإثبات..
سجلات الفندق المحفوظة لدى الإدارة الحالية لا تمتد إلى مئة عام، والشركة المالكة له الآن اشترته سنة 1996 وأدخلت عليه تجديدات وأعمال صيانة تكلفت 57 مليون استرليني، وأعادت افتتاحه عام 2000 وليس لديها ما يعود إلى عام 1915 وهى تفخر بأن الفندق هو محل اهتمام القصر الملكي، وتقام فيه حفلات تحضر الملكة أو أفراد من العائلة الملكية بعضًا منها. وتفخر بأن أكثر من ملك وملكة ممن تولوا عرش بريطانيا زاروا هذا الفندق العريق، كما زاره حكام وملوك ورؤساء وزارات بريطانيا، وأنه شهد فى ليلة واحدة حضور الملكة وثلاثة من رؤساء الوزراء معًا.
قبل شراء الشركة للفندق بعام واحد، شهد الفندق زيارات من الأميرة ديانا لصديقها الفنان الإيطالى بافاروتي، حيث كان يقيم خلال تقديمه حفله الغنائى الشهير فى حديقة «هايد بارك».
فماذا عن اتفاقية «سايكس - بيكو» السرية الشهيرة التي قسمت بها بريطانيا وفرنسا العالم العربى وعقدت مفاوضاتها وأقام مفاوضاها هنا فى الفندق العريق؟!
هل هو الخوف على سمعة الفندق الفاخر الذي لا مثيل له فى الجمع بين العراقة والحداثة معًا. والذي تكلف الإقامة فيه لليلة واحدة - وقتها سنة 2014- فى أقل غرفة نحو 500 جنيه استرليني؟!
حكاية طريفة وقعت لدى نشر مجلة «الهلال» هذا التحقيق، إذ كانت «صباح الخير» تنشر لى وقتها رواية «سبع جنات»، فقد اختار رئيس تحرير «الهلال» الجديد صديقى الروائى سعد القرش، أن يحتفل بهذا السبق الصحفى فجعله موضوع الغلاف لعدد ديسمبر 2014.. لكننى فوجئت وأنا أطالع العدد فى لندن أنهم وضعوا صورتى على الغلاف!
وفى الأسبوع المقبل نواصل
نقلًا عن مجلة صباح الخير