

أ.د. عادل القليعي
ورحمته.. مهداة "صلى الله عليه وسلم"
مع قدوم شهر ربيع الأول الأغر، يزدان الكون كله احتفاء واحتفالا بمولده صلى الله عليه وسلم، فتستشعر وكأن نفحات ربانية وهبات صفائية وأنوار إلهية تهب على عقولنا، فنترجم شوقنا إليه عبارات نكتبها بقلوبنا، وما خرج من القلب حتما سيصل إلى القلوب حتى ولو بعد حين.
نعم تحتفل الأمة الإسلامية بمولده صلى الله عليه وسلم، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن جميع الموجودات تحتفي بيوم مولده.. ولد الهدى فالكائنات ضياء، وفم الزمان تبسم وثناء.
ومظاهر الاحتفال متعددة وتختلف من مكان إلى آخر ومن بلد إلى آخر.
فهناك من يملأ الشوارع بالزينات، وهناك من يتفنن في صنع الحلوى والمأكولات وإقامة الموائد والولائم.
وليست هذه الأمور من المحرمات إذا لم يخالطها شبهات تكلف.
وهناك من يقيم حفلات الذكر والإنشاد متغنين بشيمه وخصاله الكريمة فينشدون بردة المديح للإمام البوصيري.
وهناك من يزيدون من مدارسة سيرته العطرة في المساجد والأمسيات الدينية كالتي تقيمها إذاعة القرآن الكريم يوميا طيلة هذا الشهر الفضيل.
وهناك من يملأ قلمه بمداد المحبة النورانية متعشما في مولاه أن يفيض عليه بالفتوحات الربانية فيكتب عن فضائله وشمائله ﷺ.
وهأنذا أستأذنك سيدي يا رسول الله أن أكتب عن بعض صفاتك، ولتسامحني إذا أصابني الدور وخانني قلمي فلم أوفيك حقك.
أولى الصفات التي سأذكرها صفة الرحمة، فرسولنا كان دوما ما يردد، أنا الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير.
فرحمته رحمتان، أولاهما الرحمة العامة، المتمثلة في قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فرسولنا الكريم دعوته للبشرية جمعاء، ورحمته للكون كله، جماده، وحيوانه، وشجره، ودوابه، وحجره، وإنسه وجانه.
وهذا يدحض فرية أحد المستشرقين الذين يمقتون الإسلام، ويدعى جورج سل، الذي قال إن هذه الآية نزلت إلى أهل مكة في فترة زمانية وانتهى عملها، وللأسف تلقف هذا الطرح التلفيقي بعض ممن ينتسبون للإسلام انتسابا من خلال شهادات ميلادهم فنعقوا بما لا يعلمون وبما لا يفقهون، فقالوا بتاريخانية النص القرآني.
ثانيتهما، الرحمة الخاصة، ومفادها، رحمة أهل التوحيد، أهل القبلة، فكان رسول الله ﷺ بالمؤمنين رؤوفا رحيما.
وذكر الله تعالى رحمة الحبيب في غير ذي موضع من الذكر الحكيم، "فبما رحمة من الله لنت لهم"، وقوله تعالى "خذ العفو"، فلولا الرحمة التي غرسها الله تعالى في قلبه ما كان عفا، وما كان كظم غيظه، وما كان قال لقومه اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولما صحح ما قاله سعد بن عبادة حال فتح مكة، عندما قال اليوم يوم الملحمة، لكن رسولنا الكريم قال كلا بل اليوم يوم المرحمة.
ولنا في حادثة سيد قبيلة اليمامة ثمامة بن آثال الحنفي بعدما وقع في الأسر، وربطه الصحابة في المسجد ثلاثة أيام، وكل يوم يشاهد الصحابة في صلواتهم وعباداتهم وطهاراتهم وعذب ورقة ورحمة النبي معهم.
ثم يطلق سراحه النبي ويذهب ويغتسل ويعود قائلا والله يا محمد قد كان وجهك أبغض الوجوه إليّ وما كرهت دينا أكثر من دينك، انظروا إلى رحمته صلى الله عليه وسلم، يتبسم قائلا والآن يا ثمامة، قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ويذهب معتمرا إلى مكة قبل الفتح مسلما قائلا لو تعرضتم إلى محمد لأمنع عنكم حتى حبة حنطة، وبالفعل فرض عليهم حصارا اقتصاديا ووصل بهم الحال إلى حد المجاعة فأرسلوا مراسيلهم إلى النبي ﷺ يطلبون منه أن يأمر ثمامة بألا يمنعهم الطحين ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، أي رحمة هذه حتى بمن حبسوه هو ومن معه من المسلمين المستضعفين في شعب أبي طالب.
ولنا في حديثه ﷺ القدوة والمثل الأعلى، (الراحمون يرحمهم الله)، وقوله ﷺ (من لا يرحم لا يرحم).
حتى يوم القيامة جميع الأنبياء ينفضون عن أممهم مشغولين بحالهم، فتذهب الأمم جميعا إلى النبي يطلبون شفاعته، فيقول أنا لها، أنا لها.
والآن، وواقعنا الذي نحياه، هل طبقنا رحمة النبي بيننا، هل رحم كبارنا صغيرنا، هل توقف وانتهى من ظن نفسه قويا من استئساده على الضعفاء، هل رحمنا آباءنا وأمهاتنا، هل عممنا الرحمة في بيوتنا، في مدارسنا، في جامعاتنا، في مؤسساتنا الحكومية.
هل راح كل منا يفتش بداخله عن نفحات رسولنا الكريم التي تركها لنا.
حقا كان خلقه القرآن الكريم، وكان خلقه الرحمة.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان