

مودي حكيم
أديب نوبل.. وملك القلوب
مؤثرو اليوم.. ومؤثرو زمان "3" و"المتأثرون"
في رحلة الحياة لا يوجد إنسان يعيش بمعزل عن الآخرين، فكل شخص يتأثر ويتأثر به الآخرون سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في أفكاره وسلوكياته وقيمه، حتى العظماء كان لهم أشخاص أثروا فيهم، سواء كانوا معلمين، مرشدين، أصدقاء أو حتى أعداء، فالتأثير المتبادل هو جزء طبيعي من الحياة والتطور البشري.
ولكل واحد من هؤلاء العظماء قصص عن المؤثرين، ودورهم في حياتهم، ومساعدتهم من أجل العلم والتعلم والتفوق والعدالة والإنسانية، والارتقاء بأرواحهم للسمو والعطاء والمشاركة من أجل مجتمع، وعالم أفضل.
قصص دَّروسّها خاصّة، سحرية، ومشحونة بالإبداع والابتكار والطليعية والنسج على غير منوال، والتفكير خارج الصندوق. وهي دروس تتضمن في قائمة أولوياتها واهتماماتها: التمرد، والتفرد، والإرادة، والتحدّي، والخيال، والجرأة، والمغامرة، والمخاطرة، والتسلح الدائم بالأمل والعمل والحُلم العريض؛ لتخطّي المعاناة، وتجاوز الصعاب، وتحطيم القيود.
قصص نبدأها بكاتبنا الكبير نجيب محفوظ وملك القلوب البروفيسور مجدي يعقوب كما سمّته صديقته الأميرة ديانا ورفيقته في أعمال الخير والتبرعات.
تأثر نجيب محفوظ في نشأته بشدة بحزب الوفد وقياداته السياسية الأولى، خاصة سعد زغلول ومصطفى النحاس، رغم أنه لم ينتمِ سياسيا إلى الحزب. وتأثر فكريا بالأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي والروائي والناقد الفرنسي مارسيل بروست والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه والفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت والأديب الفرنسي فرانسوا ماري أرويه المعروف باسم فولتير، فضلا عن تأثره برواد الثقافة المصرية طه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم. تأثره بين التراث الإسلامي والعربي والفلسفة والأدب الغربيين، وهو الأمر الذي جعل الدكتور حسن طلب يقول "لقد خسرت الفلسفة أحد أبنائها الموهوبين بتحول نجيب محفوظ إلى الأدب، غير أن ما كسبته الرواية قد عوضنا بلا شك أضعافا مضاعفة".
تأثر وتعلم محفوظ التواضع وإنكار الذات من الأديب الكبير يحيى حقي الذي كان يترأسه فس العمل، ويحكي نجيب فس كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" لرجاء النقاش: "عرفت الأستاذ يحيى حقي في الوظيفة، فقد أنشأ وزير الإرشاد فتحي رضوان، مصلحة الفنون، واستمرت هذه المصلحة خلال الفترة الممتدة من سنة 1955 إلى عام 1959، وتم تعيين يحيى حقي في منصب مدير المصلحة، وطلب اثنين من المساعدين، واختارني أنا وعلي أحمد باكثير، وعملت مديرا لمكتبه، وكان "حقي" أول وآخر من تولى إدارة مصلحة الفنون، وبسبب علاقتي الوظيفية معه، اقتربت منه أكثر". وحين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل، ولأصالته قال: إنه يشعر بالخجل أن نال الجائزة في حياة "حقي"، الذي كان الأحق بها، بوصفه صاحب الدور الأكبر في التأسيس للقصة والرواية كنوع أدبي جديد.
تأثر نجيب محفوظ بطه حسين، عميد الأدب العربي، وظهر ذلك عندما كتب "محفوظ" مذكراته في طفولته باسم "الأعوام.. سيرة الطفولة"، وهي عبارة عن سيرة ذاتية عن طفولة نجيب محفوظ مكتوبة بخط يده، وهو نص طويل كتبه بنفسه بعنوان "الأعوام"، من بدايات الأعمال التي كتبها، وهي تعتبر السيرة الذاتية الوحيدة له، ويتناول فيها سنواته الأولى، ولم يكن يقصد صاحب "الثلاثية" التأريخ، من وراء كتابة مذكراته حينها، لكنه قصد تدوين أحداث طفولته، تقليدا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه "الأيام".. السيرة التي وقع نجيب في غرامها.
لفت نظر نجيب محفوظ بشدة أعمال توفيق الحكيم، ولم يكن يعرفه، فاعتبره أستاذا له حتى قبل أن يطرق أبواب عالم الأدب ويضحى روائيا مشهورا. تأثر بتوفيق الحكيم في اتجاهه نحو الرواية الواقعية، خاصة بعد تحوله من الرواية التاريخية. واعتبر نجيب محفوظ رواية عودة الروح أيقونة توفيق الحكيم الروائية، فقد أبدى إعجابه الشديد بها في الحوارات الصحفية المنشورة له على مدار عمره، وكان دائما إذا سأل عن الأساتذة والمعلمين يجيب على الفور: توفيق الحكيم.
كان لسلامة موسى تأثير كبير على نجيب محفوظ في توجهه نحو العلم والاشتراكية، حيث كان ينشر مقالاته الفلسفية في مجلته "المجلة الجديدة".. وتعود علاقة نجيب محفوظ بسلامة موسى لوقت أن كان "محفوظ" طالبا يدرس في الجامعة، حيث نشر أولى مقالاته في عدد أكتوبر 1930 لمجلة "المجلة الجديدة"، التي كان يصدرها سلامة موسى، وكان عنوان المقالة "احتضار معتقدات وتولد معتقدات"، وفي 3 أغسطس 1934 بعدما تخرج نشر له سلامة موسى في المجلة أولى قصصه، وكان عنوانها "ثمن الضعف". وكان لسلامة موسى تأثير كبير على أفكار نجيب محفوظ، حيث كان "موسى" من المتحمسين لحضارة مصر القديمة، وتأثر نجيب محفوظ بهذه الرؤية، فألف ثلاث روايات عن مصر الفرعونية هي "عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"كفاح طيبة".
تعلم محفوظ العطاء والوفاء من صديقه وزميله في العمل الحكومي باكثير.. شريك النشر والجائزة الأولى، وكان هو ونجيب محفوظ من أوائل المنضمين للجنة النشر للجامعيين، التي أسسها عبدالحميد جودة السحار سنة 1943م لنشر أعمال الأدباء الشباب، وتعاهد الزملاء الثلاثة السحار وباكثير ونجيب محفوظ، على نشر أعمال أدبية ترتقي بمستوى الرواية العربية فنيا وفكريا، فاتجهوا إلى كتابة الرواية التاريخية برؤية جديدة تجعل من أعمالهم الامتداد المتطور لما كتبه أبناء الجيل السابق لهم، وحققت الروايات الثلاث الأولى "أحمس بطل الاستقلال" لعبد الحميد جودة السحار، و"رادوبيس" لنجيب محفوظ، و"سلامة القس" لباكثير، التي أصدرتها "لجنة النشر للجامعيين"، ترحيبا نقديا وثقافيا ممتازا، خاصة أن جمهور القراء قد تعرف عليها، وأعجب بها عندما نشرت مسلسله في "مجلة الثقافة" آنذاك.
ومن المدارس الأدبية الغربية، تأثر نجيب محفوظ بالواقعية الفرنسية من خلال كتابات أونوريه دي بلزاك وجوستاف فلوبير، وبالطبعانية من خلال إميل زولا، وبمدرسة الروائيين الإنجليز الأدوارديين مثل جلزورثي.
حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل وعَبّر تأثيره حدود البلاد، وأصبح له مريدون في العالم كله، وتبني العديد منهم روحياً، فكان الأب الروحي لجمال الغيطاني، فقد عشق الغيطاني كتابات المبدع العالمي نجيب محفوظ، حيث اعتبره الأب الروحي له في الإبداع والأدب، فنشأت بينهما علاقة صداقة قوية بين التلميذ والأستاذ، وكان "الغيطاني" دائما ما يتحدث عن مدى علاقته بصاحب نوبل في كل المجالس واللقاءات، ومن شدة حب جمال الغيطاني في أستاذة، جمعهما كتاب واحد كتبه "الغيطاني" بعنوان "نجيب محفوظ يتذكر"، ففيها يتذكر صاحب نوبل، ويتحدث عن الطفولة والوالد والحسين، وعن أول حب، والصراع بين الأدب والفلسفة والكتابات الأولى، ولم يخل حديثهما من السياسة والثورة والزعيم أو الفن والوظيفة.
أما مجدي يعقوب فتأثر ببداية حياته بعدة شخصيات مؤثرة. من بين هؤلاء، كان والده، وهو جراح، له تأثير كبير عليه، بالإضافة إلى عمه الذي كان أيضًا طبيبًا. كما تأثر بوفاة عمته بسبب مرض القلب الروماتيزمي في سن مبكرة، مما دفعه لدراسة جراحة القلب.
وكما جاء في مذكراته.. تأثر من محنة شخصية حدثت لعائلته عام 1940، تشكلت بذرة الطموح الأولى، التي لم تتوقف ليومنا هذا عن الإثمار. كان ابن مدينة بلبيس في محافظة الشرقية بدلتا مصر، المنتمي إلى عائلة متوسطة الحال من الأقلية القبطية، في الخامسة من عمره، عندما توفيت عمته ذات الاثنين وعشرين ربيعًا بسبب تضرر صمامها التاجي إثر إصابتها بروماتيزم في القلب. ولم تفلح محاولات أبيه الطبيب الجرّاح الحكومي ورفاقه من المختصين في إنقاذها، إذ لم يكن هناك علاج ناجع لهذه الحالة وقتها. ويعترف مجدي بأن وفاة الشابة "يوجين" ملأت نفسه إصرارًا، فعقد العزم منذ صغره على أن يصبح جرّاح قلب، ويوجد علاجات لأمراض القلب المستعصية.
وبقدر ما تتكدس المِحَن والمآزق والتحدّيات والمواقف الصعبة في حياة يعقوب، بقدر ما يزداد إصرارًا على المواجهة، وإذابة المستحيل بحلول غير تقليدية. هكذا تؤكد دروس الخيال والتمرد والمغامرة في سيرة البروفيسور، الأيقونة العلمية بفتوحاته الطبية، والرمز الأخلاقي والإنساني بإسهاماته التطوعية الكبرى في المؤسسات غير الربحية والعلاجات المجانية بمصر وبريطانيا ودول أخرى كثيرة في أفريقيا وسائر قارّات العالم.
ولم تكن أزمة واحدة وراء اتخاذ مجدي يعقوب قراره الأهم في حياته كطبيب شاب بالرحيل إلى بريطانيا عام 1961. وثمة قصة شائعة بأنه رحل بسبب ما كان يُمارس في ذلك الوقت ضد الأقباط من تحيّز بشكل عام، وبشكل خاص في مراتب الطب العُليا في مصر. ولكن مجدي ينفي سقوطه في براثن اليأس بسبب هذا التمييز ضد الأقباط، موضحًا أن إحباطاته ودوافعه للهجرة لها خلفيات أخرى.
فمن جهة أولى، فإنه تأثر جدًّا بوفاة والده عام 1959 بعد صراع مع ضغط الدم والسكري والفشل الكلوي والسكتات القلبية، ولم يكن باستطاعة مجدي الراغب في أن يكون جرّاح قلب وأوعية دموية أن يمد له يد العون، فسيطر عليه حزن عظيم.
بالإضافة إلى ذلك، تأثر مجدي يعقوب ببعض الشخصيات البارزة في مجالات مختلفة.. منهم إمحوتب من أوائل الأطباء في التاريخ، وتأثر به يعقوب كرمز للعلم والطب في مصر القديمة. روبرت كوخ هو عالم ألماني رائد في مجال البكتيريا، وتأثر به يعقوب كنموذج للعلم والبحث. كارل بوبر، وهو فيلسوف نمساوي بريطاني، وتأثر به يعقوب كنموذج للتفكير النقدي والفلسفي. والسير بيتر المدور، وهو عالم أحياء بريطاني، وتأثر به يعقوب كنموذج للبحث العلمي والابتكار.
وعنهم سنتابع الحكي..