

د. حسام عطا
يحيى الفخراني والنسخة الثالثة للملك لير على المسرح القومي.. قراءة نقدية
يجب أن أؤكد أن مسرحية الملك لير لوليم شكسبير في كل مرة أشاهدها أو أطالع صفحات نصها أكتشف معاني جديدة وإشارات جديدة ومفاهيم وأساليب في الكتابة ورؤية للحياة والمسرح.
وفي هذا الإطار استمتعت للغاية بمشاهدة النسخة الثالثة من الملك لير للفنان الكبير يحيي الفخراني، مساء الثلاثاء التاسع من يونيو الجاري 2025 في صحبة حضور رفيع المستوى.
والفخراني كعلامة عبقرية في فن التمثيل المصري المعاصر، راكم إبداعا وخبرة وتنوعا، يمكنني معه أن أقول أنه صاحب بصمة أصيلة متفردة في الربع الأخير من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين في العالم ككل وليس في مصر وعالمنا العربي فقط.
والفخراني يتنفس الإبداع ويتوهج طاقة وحيوية عندما يلامس خشبة المسرح ويرى نوره وجمهوره، هكذا شاهدته وهو مستيقظ الحواس مسيطرا على جسده وصوته وكل عناصر الممثل الإنفعالية، مع ذاكرة حية وطاقة عاطفية ووجدانية يقدم من خلالها شخصية الملك لير.
ويبدو لي أن شخصية الملك لير التي ألبسها له المخرج الكبير أحمد عبد الحليم 2005 على المسرح القومي، وهي النسخة الأولى له قد ملكت عليه عبر تقمصها وجدانه، وهو ممثل يقرأ ويحضر جيدا ويصنع تصورا لكل تفاصيل الشخصية، وهي المسألة التي يمكن ملاحظتها في أدواره المتفردة في المسرح وعلى الشاشة معا.
ولكن الفخراني قد تعلق بشخصية الملك لير، فهي عميقة الأبعاد، ومتناقضة وثرية ويضع شكسبير على لسانها الكثير من التأملات في الحياة والبشر، ويطلق أيضا العديد من الآراء التي تخالف المألوف والأعراف والتقاليد العامة، وفي ذلك يضع شكسبير كل الحكمة على فم لير وهو في حالة غيبوبة الجنون في مشهد العاصفة.
ولا شك أن ذلك التعلق الإبداعي الصحي بتلك الشخصية، قد اصطدم بغياب التراكم الاحترافي في مسألة إعادة تقديم الأعمال المسرحية "الريبرتوار"، ففي النسخة الثانية جاء المخرج كرم جبر بفريق عمل مختلف، وفي النسخة الثالثة جاء المخرج شادي سرور بفريق عمله أيضا، فهل حقا كان الفخراني مختلفا في كل مرة؟
ما شاهدته في النسخة الثالثة اختلافا كبيرا، فهو هنا يقترب بعمره الحقيقي من عمر الشخصية الدرامية الملك لير.
مما يجعل طاقته العامة ومظهره الخارجي وحالته الوجدانية أكثر اقترابا من لير شكسبير.
لأن لير حقا مع كل الهيبة والملك، ما دفعه لترك الحكم هو الزهد التام في أعمال الملك الشاقة والجادة معا.
لكن تبقى المقارنة بين النسخة الأولى والنسختين الثانية والثالثة أمرا ضروريا في إطار تلك الإتاحة النادرة للنقد التطبيقي المقارن.
والمعالجة الأولى حقا تظل على الصعيد الجمالي والإبداعي والفكري أكثر اقترابا من روح المسرح الشكسبيري والعصر الإليزابيثي في إنجلترا.
وقد كان مسرح "الجلوب" في إنجلترا والذي شهد شكسبير كعلامة كبرى في عصر النهضة الأوروبي مسرحا بسيطا، ليس بكل ما هو متاح الآن من تقنيات المسارح المعاصرة.
ومع ما جاءت به العبقرية الشكسبيرية من إلغاء لوحدات الزمان والمكان، بل وتعدد الحبكات الفرعية والتي تتصل بالحبكة الأساسية، كانت المشاهد متلاحقة والأماكن متعددة، وكانت فرقة شكسبير ترفع لافتة مكتوب عليها، قصر، أو ساحة القتال على سبيل المثال، أو غصنا لشجرة لتعطي إشارة بسيطة بأن المكان غابة، ولم تلجأ لصناعة المناظر الواقعية ذات التفاصيل.
كما أن خشبة المسرح، التي كانت المقصورات الملكية وعليه القوم تدخلها من الجانبين، مع وجود اتصال بين الخشبة والجمهور، قد جعلت عروض فرقة وليم شكسبير عروضا تتجه بوضوح وبشكل مبكر نحو جماليات التلقي التي تقوم على صناعة الإيهام الدرامي، ثم كسرها للإيهام قبل ظهور مفهوم كسر الإيهام مع الملحمية، وبرتولد برخت المخرج الشهير وإكتمال نظريته في النصف الثاني من القرن العشرين.
وتقنية (المجانبة) التي يردد فيها الممثل أصداء صوتة الداخلي وصوت ضميره وما فعله سرا وكأنه يحادث الجمهور حديثاً جانبياً، بعيداً عن عالم الدراما الإيهامي وشخصياتها، وهي تقنية مسرحية كم ألهمت السينما والدراما التليفزيونية الكثير والكثير.
أما حديث النفس المطول والذي يتحدث به لير مراراً وتكراراً، فهو ووفقا لجمل شكسبير الحوارية هو حوار مباشر موجه للجمهـــــور.
وهي صفة من صفات الدراما الشعبية، ومسرحية الملك لير بالأساس ذات صلة بتاريخ إنجلترا وأيضاً بالحكايات الشعبية هناك، ولذلك فهذا المسرح الشكسبيري الخشن بتعبير بيتر بروك المخرج المسرحي الكبير مواطن شكسبير الذي عاش في القرن العشرين، وكتب عن شكسبير كتابه الشهير المساحة الفارغة، لهو حقاً من أصدق التجليات النقدية والإخراجية في قراءة شكسبير ككاتب شعبي يكتب مسرحاً خشنا يخاطب عقل وخيال المتلقي.
وتلك القراءة التاريخية لفهم التعامل مع الفراغ المسرحي، وخيال الجمهور كانت حاضرة بوضوح في رؤية المخرج الكبير الراحل أحمد عبدالحليم، كما أن القراءة السياسية لمسألة قيام الملك بتفتيت المملكة التي كان يحكمها وفقاً لمباركة الرب بمفهوم عصر النهضة كانت حاضرة بوضوح، خاصة في مشهد تمزيق خارطة المملكة المتحدة في العرض.
لأنه بالتأكيد لا يمكن فهم مسرحية الملك لير على أنها مسرحية عن عقوق الأبناء، إنها مسرحية عن فوضى العالم وعن رغبة الإنسان في السيطرة والخداع، وعن التسلط والقسوة والنفاق، وعن الحرب.
غابت تلك القراءة الجمالية والفكرية عن النسخة الثالثة إذ سعى المخرج شادي سرور إلى استخدام المناظر وتقنيات الصور المعاصرة لمهندس المناظر د. حمدي عطية كي يحاول إضفاء الطابع الواقعي على الأماكن.
وهو أمر بالغ الصعوبة مع تعدد مناظر وليم شكسبير، ومنها مناظر ومشاهد المعارك الحربية، والتي لجأ فيها المخرج في نسخة الثالثة إلى استخدام لغة الإشارة المختزلة، وهي اللغة الأكثر تعبيرا عن عالم وليم شكسبير.
كانت النسخة الثالثة أكثر استخداماً للألوان والإضاءة والصور، وحاولت صناعة الثراء المشهدي في المناظر وفــــي ملابـــــس علا علي والتي جاءت مناسبة وذات طابع احترافي، كما جاءت الموسيقى ذات طابع مسرحي لجأ للمبالغة وهي ذات الطريقة التي حاولها جميع الممثلون في العرض، إذا حرص المخرج على استخدام طاقة كلاسيكية ذات طابع مسرحي تاريخي نسبيا في عناصر عرضه وعلاقاتها المتصلة.
وفي إطار هذا الأسلوب المسرحي أبدع الفنانون، وهم نخبة من رصيد المسرح المصري بتجربتهم المهنية رفيعة المستوى، وهم الفنان النجم طارق دسوقي والذي أعاد إطلاق إبداعه المسرحي أكثر عمقا وبقدرة واضحة على تنظيم الإنفعال والتقمص، إذا يدخل طارق الدسوقي مرحلة جديدة من النضج المسرحي، وكذلك كانت الإجادة والحضور والإتقان الاحترافي المسرحي سمة واضحة عند الفنانين والفنانات حسن يوسف، أحمد عثمان، تامر الكاشف، أمل عبدالله، إيمان رجائي، لقاء على، بسمة دوايدر، طارق شرف، محمد العزايزي، والفنان القدير عادل خلف، ومحمد حسن.
وقد أدى فريق العمل عمله حقا بطريقة تؤكد المخزون الاحترافي لأجيال جديدة في المسرح المصري، وهم ضياء شفيق مصمم الاستعراضات وأحمد الناصر المؤلف الموسيقي ومحمود الحسيني في تصميم الإضاءة وعلا على في الملابس ود. حمدي عطية في المناظر.
وقد كان الحضور الجماهيري الحاشد قد إزدان بكل من الصديق العزيز وزير الخارجية المصري د. بدر عبد العاطي والذي استعاد مع صديقنا العزيز أستاذ العلوم السياسية د. محمد كمال الاهتمام المشترك بالمسرح، وقد أسعدني ذلك في ضيافة كريمة من وزير الثقافة المصري أ.د. أحمد فؤاد هنو.
مما يؤكد أن عودة النجم الكبير يحي الفخراني لخشبة المسرح بمثابة خطوة كبيرة على طريق استعادة الاحتراف المسرحي في الإنتاج الثقافي المصري، وفي مسرحنا القومي العريق، والذي شهد إقبالا كثيفا على حجز تذاكر العرض المسرحي الملك لير.