
الظمأ ينهش غزة بصمت والحياة على المحك.. والعالم يتفرج بلا قطرة أمل

ساره وائل
على وقع أصوات أبواق شاحنات المياه، ينتفض يوسف أبو الكاس من داخل خيمته المهترئة، ممسكًا بغلوناته البلاستيكية، يصطحب أطفاله الذين تعلّقت عيونهم بمصدر الحياة الوحيد في محيطهم الموحش.
"بأجري وأنا بدعي أوصل قبل ما المي تخلص".. هكذا قال يوسف، بينما يصف المشهد اليومي الذي أصبح طقسًا من طقوس النجاة. الزحام حول شاحنات المياه يزداد، والمياه لا تكفي، وكثيرًا ما يعود بخفي حنين.
أحيانا تمر أيام قبل أن تعود الشاحنة من جديد، وأحيانا أخرى تباع المياه بأسعار تفوق قدرة النازحين على تحملها.
الماء.. كنز مفقود
في غزة، لا يعد العطش شعورًا عابرًا، بل هو واقع ثقيل يمتد لأكثر من 20 شهرًا متواصلة من الجفاف والانهيار. أكثر من 90% من السكان لا يجدون مياهًا صالحة للشرب، وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، و60% من مرافق إنتاج مياه الشرب توقفت بالكامل عن العمل.
في حي من أحياء خان يونس، حيث الاحتماء صار بالخيام بدل البيوت، يقول محمود العرجا وهو يمسح العرق عن جبينه: "نموت عطشا في حر قاتل. لا طعام، لا شراب، لا حياة آدمية". ويتابع بصوت متهدج: "المياه تُقصف، الآبار تدمر، حتى ألواح الطاقة الشمسية ومولدات الكهرباء التي كنا نعتمد عليها.. لم تسلم من القصف".
عطش.. ومعه جوع
ليس العطش وحده ما يفتك بالناس هنا. إبراهيم الدوش يتحدث عن مجاعة موازية: "تحملنا الكثير.. بس دا تخطى كل التوقعات، إحنا دلوقتي في مرحلة الصراع على أساسيات الحياة: شربة مي، لقمة، ظل".
أما توفيق أبو طه، فقد أصبح يرى الموت في عيون أطفاله. يقول بحسرة: "بيذبلوا قدام عيني.. الجوع والعطش قاتلين. بطلنا نقدر نجيب لهم إسعاف، ولا حتى نحميهم". ثم ينظر بعيدًا قبل أن يتمتم: "قالوا ما حد بيموت من الجوع والعطش.. بس غزة عم بتموت فعليا".
الوقود.. كلمة السر
بحسب سلطة المياه، فإن كميات استخراج المياه في غزة انخفضت بنسبة 70 إلى 80% عما كانت عليه قبل الحرب. السبب؟ منع الاحتلال الصهيوني إدخال الوقود والسولار، ما أدى لتوقف محطات التحلية والضخ. بلدية دير البلح أطلقت نداء عاجلا، مؤكدة أنها قد لا تصمد لأكثر من أسبوع إذا لم يصلها السولار اللازم لتشغيل آبارها الثمانية عشر.
في بيان مؤلم، حذر المتحدث باسم اليونيسف، جيمس إيلدر، من أن "الأطفال في غزة سيبدؤون بالموت عطشًا"، واصفًا الأزمة بأنها "جفاف مبرمج سياسيًا"، يمكن وقفه فور توفر الوقود.
حرب تجوع وتعطش
منذ 7 أكتوبر 2023، دخلت غزة نفقًا مظلمًا من الحصار المشدد، الذي لا يكتفي بمنع دخول المساعدات، بل يمتد ليستهدف مراكز توزيع الطعام والآبار ومصادر المياه، وحتى الشاحنات التي تنقلها.
في مدينة خان يونس، بعد أن لجأ إليها نازحو رفح، بات شح المياه يهدد آلاف الأرواح، خصوصًا بعد استهداف خط مياه "ميكروت" القادم من إسرائيل.
ووسط هذا الجحيم، تتقلص فرص النجاة. من لم يمت بالقصف، قد يقتل بالجوع أو العطش. ومن لم يلقَ حتفه في رحلة البحث عن الطعام، قد يسقط أثناء الركض خلف شاحنة مياه...غزة لا تموت بصمت.. بل بصوت العطش.