عاجل
الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
 التحرير مرتين وفي كل مرة تنتصر مصر

التحرير مرتين وفي كل مرة تنتصر مصر

في البدء كانت الأرض.. الأرض لا تُشترى، ولا تُباع، ولا تُؤخذ هكذا عن غفلة، وإن أخذوها يوماً فإنها تصرخ في عروق الرجال، وتدعوهم كي يفتدوها بالدم والعين والقلب. هكذا كانت سيناء، وهكذا كانت مصر في الثلاثين من يونيو. قطعة من الروح تُنتزع، فيهبّ الشعب كمن أيقظه منامٌ سيئ، أو كما تهبّ النخلة إذا نُزع عنها ترابها.



 

في الخامس والعشرين من أبريل، نحمل وروداً من الذاكرة ونصعد بها إلى قمم النشيد الوطني، لنقف أمام وجه سيناء الباسل ونقول: "لقد عدتِ إلينا يا ضفّة القلب البعيدة، ويا أرض الزيتون والسر المقدس." وفي الثلاثين من يونيو، نحمل قناديل الغضب وننزل بها إلى شوارع المدينة، لنقول: "لن نترك مصر تؤسر من جديد، لن تُؤخذ عروس النيل إلى الخيام السوداء وتُزفّ باسم الدين إلى من لا يعرف الدين إلا كذريعة".

 

التحرير الأول كان من عدو واضح، غاصب، محتل. والتحرير الثاني كان من عدو مستتر، جاء يبتسم ويتكلم بآيات الله، لكنه دسّ السم في ماء النيل، واستبدل المحاريب بالمنابر الحزبية، وجعل من الوطن غنيمة، لكن مصر يا صاحبي لا تُشترى، ولا تُخطف، ولا تُنافق. مصر أمّ إذا خُطف ابنها، تبكي، ثم تقاتل. إذا كسروا مرآتها، تنظر في عيون أولادها وتعود تُسرّح شعرها على ضوء الشمس.

 

في سيناء، قاتلنا بالرصاص والدبابات والطائرات. وفي الثلاثين من يونيو، قاتلنا بالهتاف، بالأغاني، بالدمع، بالراية، باللافتة، باليقين أن مصر لا تركع إلا لله. كانت سيناء في وجداننا رئةً نُحرم منها فنتنفس بصعوبة، وكأن الروح معلّقة على مشجب الانتظار. منذ أن عبرت الدبابات الإسرائيلية في الخامس من يونيو عام 1967، ونحن نرتبك في نشيدنا، نغني مصر "أم الدنيا" ونعرف أنها ناقصة ضلع. حتى جاء السادس من أكتوبر عام 1973، وعادت الجندية المصرية تُكتب بحروف من نار، وعبرت القوات المسلحة القناة، وعاد شريان الكبرياء يتدفق في الدم.

لكن التحرير لم يكن كاملاً. ظلّت الأرض، كلها، حلماً لا يُغلق. حتى جاء الخامس والعشرون من أبريل عام 1982، ليعود العلم المصري يرفرف على كامل تراب سيناء، بشروط السياسة لا المدفع، ولكن بروح الحرب التي لم تخمد في القلب.

أما في الثلاثين من يونيو، فقد عدنا لنخوض حربًا من نوعٍ آخر. لم نواجه دبابةً هذه المرة، بل واجهنا من أراد أن يجعل من الوطن ساحةً لصراعات الخارج. واجهنا من أراد أن يستبدل الدولة بالدولة البديلة، ومن أراد أن يعيدنا إلى زمن الولاء للمرشد لا للوطن.

انتفض. المصري الذي أدار معركة العلمين مع الإنجليز، وقاتل في السويس في 1956، ورفع علمه على خط بارليف، هو ذاته من خرج يوم الثلاثين من يونيو 2013، يحمل كفنه في يده، يهتف: "يسقط يسقط حكم المرشد".

التحرير لا يعني فقط إخراج الغازي، بل يعني تحرير الوعي، تحرير الإرادة، تحرير الهوية. وما فعلناه في الثلاثين من يونيو لا يقل قيمة عمّا حدث في أبريل، لأنه جاء ليقول: "لا عباءة فوق الوطن، لا عمامة فوق العلم، لا قَسَم فوق قَسَم الجيش المصري".

 

سيناء رجعت إلينا بتوقيع وقوة وصبر، ومصر رجعت إلينا بهتاف ودماء ودموع وعناد. في سيناء سال الدم على الرمال، وفي الثلاثين من يونيو سال على الأرصفة. في سيناء كان النشيد الوطني يرتفع وسط المعارك، وفي الثلاثين من يونيو كان الناس يغنون وهم يواجهون الموت بصدورهم. وهكذا علّمنا الوطن أن الغزاة لا يشترط أن يأتوا على دبابة، بل قد يلبسون الزي الوطني ويظهرون في خطبة الجمعة. علّمنا أن الهزيمة لا تأتي من الخارج فقط، بل قد تُزرع في العقول، وتُروى بخطب الفتنة، وتُثمر خراباً.

وفي كل مرة، تنتصر مصر.

التحرير الأول أعاد إلينا الأرض. والتحرير الثاني أعاد إلينا الهوية . وفي كليهما، كنا شعبًا لا ينكسر.

ومثلما انتظرنا خمسة عشر عامًا لنرفع العلم على طابا، كنا مستعدين أن ننتظر ألف عام كي لا نحني رؤوسنا لحاكمٍ يظن نفسه فوق الوطن. وفي المرتين، وقف الجيش هو العمود الفقري. في المرة الأولى قاتل وقاد وعبر وانتصر. وفي الثانية، وقف على الحياد أولاً، ثم انحاز إلى الوطن حين ناداه الشعب، وكتب بيانه الذي كان بمثابة وثيقة تحرير جديدة.

أبدا لن ننسي سيناء التي عادت إلينا، ولا الثلاثين من يونيو الذي أعاد لنا مصر. لا تنسوا أن العلم الذي رُفع على طابا هو نفسه الذي رُفع في الميادين، وأن النشيد الوطني الذي هتفناه على ضفة القناة، هو نفسه الذي هتفنا به في كل ميادين مصر لا تنسوا أن الوطن حين يُسرق، فإنه يعود، شرط أن تكون قلوب بنيه حارسةً له.

التحرير ليس ذكرى نحتفل بها، بل درسٌ نتعلمه. نتعلم أنه لا أحد فوق مصر، لا حزب، ولا جماعة، ولا طائفة. وأن مصر لا تُحكم بالوصاية، ولا تُقاد بالعصا، ولا تُستبدل بحلم إمارة، ولا تُساق كأمة مغلوبة.

مصر لا تقبل إلا وجهها. وجه أمٍ تقطر حنانًا، وتفور غضبًا حين يُمسّ أولادها بسوء.

 

ففي كل عام، ونحن نحتفل بتحرير سيناء، لنتذكر أننا استعدنا الأرض لأننا لم نقبل أن تُؤخذ، وأننا استعدنا الوطن في يونيو، لأننا لم نقبل أن يُسرق. وهذه هي مصر: تُؤخذ منها أشياء أحيانًا، لكنها لا تُؤخذ كلها أبدًا. تُنتزع منها بقعة، تُخطف منها لحظة، لكنها لا تُكسر.

 

وفي غمار هذا التاريخ الذي لا يُنسى، لا يمكن أن نغفل عن القائد الذي لبّى نداء الوطن حين ارتجّت الأرض تحت أقدام الخائفين، وضلّ الطريق على السالكين. إن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يكن مجرد رجل في لحظة، بل كان لحظة في رجل. لحظة فارقة وقفت بين وطنٍ يُختطف ووطنٍ يُستعاد. لم يختر الراحة، بل اختار المواجهة، ولم يُساوم على مصر، بل حملها كما تُحمل الأم في قلب ابنها البار، وسار بها وسط اللهيب حتى عبر بها إلى ضفة الأمان.

وحين تحدّث الشعب، لم يتردّد الجيش المصري، لم يلتفت يمينًا أو يسارًا، بل انحاز إلى الأرض التي أقسم على حمايتها، وإلى الشعب الذي وُلد من رحمه. لقد أثبتت المؤسسة العسكرية المصرية، كما أثبتت في أكتوبر وفي كل معاركها الكبرى، أن الشرف ليس رتبة، بل موقف، وأن الانتماء ليس شعارًا يُرفع، بل تضحية تُقدَّم في صمتٍ ونُبل.

هذا الجيش، الذي عبر القناة تحت وابل النيران، هو نفسه الذي عبر بنا في الثلاثين من يونيو من ليل التيه إلى فجر الاستعادة. وهذا القائد، الذي حمل همّ مصر على عاتقه، هو نفسه الذي استنهض حلمها، وشرع في بناء وطن يليق باسمها، وكرامة تاريخها، وعنفوان شعبها.

فيا مصر، يا وجهًا لا يُشبهه وجه، ويا اسمًا محفورًا على جدران القلب، يا مَن إذا بكت دموعها تحرق، وإذا ابتسمت فُتحت لها أبواب السماء… كوني كما عهدناكِ، عالية الجبين، شامخة القامة، وارفعي علمك فوق كل رماد، قولي للدنيا: "أنا مصر… من صبرت، ومن قاتلت، ومن غفرت، ومن لا تنكسر".

تحيا مصر.. لا قولًا، بل فعلًا

تحيا مصر.. لا احتفالًا، بل عهدًا يُجدَّد في كل صباح

تحيا مصر.. لأن فيها رجالًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ونساءً حملنها في الدعاء، وأطفالًا وُلدوا على حبها، وشهداء سكنوا ترابها ليُظلّونا بالكرامة.

تحيا مصر.. ما دام فينا قلب ينبض باسمها، وما دام فوق هذه الأرض علمٌ يُرفع في وجه الريح، ولا يسقط.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز